«أنا كنت باشجع المجلس العسكرى ولما أسمع الشباب يقولوا يسقط أقول لأ غلط ــ بس انا دلوقت اتخنقت».
«أنا قلت الإخوان ناس بتعرف ربنا بس لقيتهم بيغيروا كلمتهم ــ دول بيتصرفوا زى الحزب الوطنى بالظبط. إيه الفرق؟»
«يعنى الشيخ حازم ماكانش عارف بحكاية الجواز دى قبل ما يمشى الناس كلها وراه؟»
«إذا كان عمر سليمان نازل الانتخابات يبقى كده عرفنا ان بورسعيد كانت ملعوبة».
«أنا اسامح فى أى حاجة ــ إلا ف بورسعيد. ليه؟ عشان دى شباب رايحة تتفرج على كورة ــ لاهى نازلة عند مجلس الشعب ولا ف محمد محمود».
من منا لم يسمع هذه الجمل مكررة فى الشارع فى الأيام الأخيرة؟
هذا هو إحساس الشارع الآن بالقوى الكبيرة التى تحاول أن تمسك بأمورنا وترسم حاضر ومستقبل بلادنا. وجميل أن تنكشف هذه القوى، المضطرة الآن ولأول مرة، أن تعمل (إلى حد ما) فى العلن، وتحت الرقابة الفعلية للناس، فنعرف أساليبها، وطريقة تفكيرها وتعاملها، وتتضح بما لا يدع مجالا للشك نظرتها للشعب على أنه كيان ينضحك عليه، ويُسَيَّر ويُستغَل.
وتظهر هذه النظرة جلية فى أحداث لجنة كتابة الدستور حيت اتضح ان الجماعة الغالبة ــ بالرغم من أن قوتها هى فى اتصالها بالناس وتواجدها معهم فى العشوائيات والقرى والنجوع ــ إلا أنها لا تدرك حجم وتنوع الناس وحكمتهم، وأكاد أجزم أنها تفكر طول الوقت فى «توعية» الناس وليس فى استقاء الحكمة منهم.
وجدت من اللطيف والمطَمْئن فى هذه الأيام ان أعود إلى تلك الحقبة فى تاريخنا حيث كانت مصر تتحسس طريقها إلى عهد جديد بعد ان انهارت الدولة التى استقرت وأدارت وأنجزت لمدة ألف عام. انهارت الدولة القديمة ومرت مصر بمائتى عام من التفكك ومن الغربة عن الذات، وحين وُجدت فيها مرة أخرى المقومات الاقتصادية والسياسية للملمة النفس وللنهوض صار الناس يبحثون فى قلوبهم وتراثهم وآمالهم ومحيطهم عن المبادئ التى يبنون عليها دولتهم الناشئة. وقد كتبت من قبل عن «الفلاح الفصيح»، وأكتب اليوم عن «الماعت».
مثلوها بامرأة جميلة، ممشوقة القوام، ينسدل شعرها على كتفيها، وتعقد حول جبينها شريط زاهى الألوان تقوم منه ريشة طويلة لطائر ما.
وكانوا فى الدولة القديمة يقولون إن «الملك يقول الماعت ويفعل الماعت»، وكانوا يقولون أيضا أن «الماعت تعيش فى أنفاس الرب». لكنهم لم يفصحوا أبدا عن ماهية الماعت؛ لم يوضحوا ما هو الفعل الذى يوصف بأنه فعل الماعت؟ كيف يكون كلام الماعت؟ لأنهم، فيما يبدو، كانوا، ولزمن طويل، يعرفون الماعت حق المعرفة فلم تكن بهم حاجة لشرحها. وحين جاء الانهيار والجوع والانفلات والتغرب عن القيم ضاعت المعرفة بالماعت، وصار الناس ينعون غيابها ويصفون الأحوال بأنها أحوالا «لا تعرف الماعت». وبالتالى، حين بدأوا فى ترميم وبناء مصر مرة جديدة، وكانوا يبحثون ــ كما أسبقنا ــ عن مجموعة القيم التى سوف تشكل الأساس المعنوى والأخلاقى للدولة والمجتمع الناشئ، بحثوا عن الماعت.
ومن عبقرية المصريين فى ذلك الوقت (وأملنا أن تكون هذه العبقرية لاتزال حية) انها استطاعت أن تبحث فى قديمها عن الجديد، أو بتعبير آخر، أن قديمها كان يحمل داخله بذور الجديد، فكانت تستولد الجديد من القديم، فتأتى القيم التى تطرحها متجذرة فى النفس والمجتمع، متجددة ومتشكلة لتكون ذات فائدة فى العصر الحديث.
بحثوا عن الماعت، والماعت موجودة لكنها مجهولة، فقد الناس علاقتهم الوثيقة بها، فصار لزاما على أصحاب الكلمة والمنابر تذكيرهم بها، فبدأوا فى وضع أوصاف الماعت ــ بدأوا فى تفكيك الماعت فوصلوا إلى ٨٤ توصية، كل توصية منها هى من أفعال الماعت أو أقوال الماعت. وهذه التوصيات تتضمن الوصايا العشر التى تحدث فيها فيما بعد موسى عليه السلام فقال لا تقتل ولا تطمع إلى آخره. لكن توصيات الماعت أكثر تزيد عنها ٧٤، فتكون أكثر دقة، وهى تأتى فى شكل إقرارات نافية، على كل واحد منها أن يدير حياته بالأسلوب الذى يمكنه من أن يقرها بصدق. أورد هنا بعضا منها، ولنسأل أولى الأمر منا اليوم من منهم يستطيع أن يقرها ــ كلها ــ على نفسه فيكون من الصادقين؟
أنا لم أقتل النساء أو الرجال.
أنا لم آمر أو أوعز للآخرين بقتل النساء والرجال.
أنا لم أتسبب فى الآلام وذرف الدموع.
أنا لم أسرق.
أنا لم أقلل القمح ولم أمد يدى إلى المال العام.
أنا لم أكذب.
أنا لم ألعن وحافظت على نقاء لسانى.
أنا لم أكن من المخادعين.
أنا لم استول على أرض مزروعة.
أنا لم أتسبب فى إيقاف المياه.
أنا لم ألوث النهر.
أنا لم أتهم إنسانا كذبا أو أقذفه بما ليس فيه.
أنا لم أروع الناس.
أنا لم أغلق أذنى عن كلمة الحق.
أنا لم أشح بوجهى عن المحتاج.
أنا لم أثر الفتنة.
أنا لم أتجسس أو أسترق السمع.
أنا لم أكن من رجال العنف.
أنا لم أظلم.
أنا لم أكثر من الكلمات لأدارى الحقيقة.
المجالس والأحزاب واللجان هى فى الآخر أفراد، وقيمتها فى قيمة أفرادها، فلننظر فى قيمة مجالسنا وأحزابنا ولجاننا ــ كم من أفرادها يستطيع، وبأمانة، أن يقر بالماعت المصرية الجميلة؟