«استعمار بالأنيمى».. ترند Ghibli و«الغسيل الفنّى» - مواقع عربية - بوابة الشروق
السبت 12 أبريل 2025 9:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

«استعمار بالأنيمى».. ترند Ghibli و«الغسيل الفنّى»

نشر فى : الجمعة 11 أبريل 2025 - 7:30 م | آخر تحديث : الجمعة 11 أبريل 2025 - 7:30 م

فى زمن تُقصف فيه البيوت وتُهجّر فيه العائلات، اختارت إسرائيل أن تواكب «الترند». أربع صور نُشرت على حساب جيش الاحتلال على منصة X، تظهر جنودا إسرائيليين بأسلوب رسوم «استوديو جيبلى» Ghibli studio، أحد أكثر الأساليب البصرية المرتبطة بالسلم، الطبيعة، والطفولة والبراءة. لكن خلف هذه الصور المصممة بالذكاء الاصطناعى تُرتكب مجازر موثّقة بحق المدنيين فى غزة. فما الذى يعنيه أن تُستخدم أعمال هاياو ميازاكى لتلميع آلة حرب؟ وما خطورة هذا «الترند» على الفن والحقيقة؟

هاياو ميازاكى، المؤسس المشارك لاستوديو «جيبلى»، ليس مجرد صانع أفلام. هو شاعر بصرى كتب أفلامه بالألوان، وبنى عوالمه بأدق تفاصيل الطبيعة اليابانية، حيث تمتزج الروحانيات الشرقية كالبوذية مثلا مع قصص الأطفال والحكايات الشعبية. أفلامه ليست رسائل وعظيّة، بل تجارب حسية وعاطفية تنمو تدريجيا فى وجدان المشاهد.

من «الأميرة مونونوكى»، التى تستعرض صراع الإنسان مع الطبيعة والآلهة الغاضبة، إلى «الريح تهب»، السيرة الذاتية التى تطرح أسئلة أخلاقية حول التكنولوجيا والحرب، مرورا بـ«الجار توتورو» و«المخطوفة» (Spirited Away) اللذين يستكشفان البراءة، الخوف، والقدرة على التحول والنضج، تأتى أعماله كرحلات داخلية تتحدى الواقع وتعيد بناءه من منظور إنسانى شديد الحساسية.

القيمة الجوهرية فى أفلام ميازاكى تكمن فى رفضها الثنائيات البسيطة: لا وجود لشر مطلق، ولا لبطل خارق. شخصياته نساء قويات، أطفال يكتشفون العالم، وكائنات غامضة ليست طيبة أو شريرة بل معقّدة، كما الحياة. تترك أفلامه أثرا لا برسائل مباشرة، بل بأسئلة مفتوحة، ومشاهد صامتة أحيانا.

ميازاكى، المعارض الصريح للنزعة العسكرية، رفض حضور الأوسكار عام 2003 احتجاجا على غزو العراق. وفى مقابلاته، عبّر مرارا عن رفضه استخدام التكنولوجيا فى الفن من دون روح، واعتبر الذكاء الاصطناعى «إهانة للحياة نفسها»، مؤكدا أن الفن الحقيقى ينبع من اللمسة البشرية، من التعب والانفعال.

• • •

بدأ «ترند جيبلى» مع إطلاق أداة جديدة لتوليد الصور من OpenAI، حيث حوّل المستخدمون صورهم الشخصية إلى مشاهد بأسلوب جيبلى. وسرعان ما تحول هذا الحنين البصرى إلى أداة لإعادة تصوير الأحداث التاريخية وحتى الجرائم بطريقة «لطيفة».

خلف هذا الترند مخاطر أكبر تتعلق بالخصوصية والملكية الفكرية. استخدام أدوات الذكاء الاصطناعى لتوليد صور بأسلوب فنى معيّن يعنى عمليا تدريب هذه النماذج على أعمال فنانين من دون إذن منهم، ما يُعدّ انتهاكا واضحا لحقوق الملكية. أسلوب «جيبلى» لم يُرخص لأحد، ومع ذلك أصبح متاحا للجميع بضغطة زر.

وعلى صعيد الخصوصية، فإن ملايين الصور التى يرفعها المستخدمون إلى هذه المنصات تُخزّن وتُستخدم لتحسين أداء النماذج، ما يطرح أسئلة خطيرة حول من يمتلك هذه البيانات، وكيف يمكن استخدامها لاحقا، سواء فى أغراض تجارية أو أمنية أو سياسية.

ما بدأ كلعبة بصرية جذابة تحوّل بسرعة إلى سلاح ناعم لتزوير الواقع، ومصدر قلق قانونى وأخلاقى لا يمكن تجاهله.

• • •

«التزيين» أو «الغسيل الفنى» أوArtwashing، هو استخدام الأنشطة الثقافية والفنية لتلميع صورة دول أو مؤسسات متورطة فى انتهاكات حقوقية، عبر ربطها بالحداثة، الإبداع، والانفتاح، على رغم سجلها الأسود فى القمع والعنف. ظهر المفهوم أولا فى لوس أنجلوس، وتحديدا فى حى بويل هايتس ذى الغالبية اللاتينية، حين استُخدمت مشاريع فنية فى «إعادة تأهيل» الحى، ما مهّد لطرد السكان الأصليين لمصلحة مشاريع التطوير العقارى. الفن هنا لم يكن مجرد وسيلة للتجميل، بل أداة لاستعمار حضرى ناعم.

لكن الأخطر هو انتقال «الغسيل الفنى» من القطاع الخاص إلى الأنظمة السياسية، خصوصا الأنظمة الاستبدادية.

فى الفلبين، موّل نظام فرديناند ماركوس فى الثمانينيات مهرجانات ومؤسسات سينمائية مثل «السينما التجريبية» و«مركز مانيلا السينمائى» تحت إدارة ابنته إيمى ماركوس، للترويج لوجه حضارى وسط موجات القمع والفساد، فيما كانت البلاد تغرق فى الديون وانتهاكات حقوق الإنسان.

• • •

منذ انطلاق حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) عام 2005، كثّفت إسرائيل جهودها لتوظيف الفن كأداة دبلوماسية ناعمة لتلميع صورتها عالميا، على رغم استمرار احتلالها الأراضى الفلسطينية وارتكابها انتهاكات ممنهجة للقانون الدولى. هذا التوجّه لم يكن عفويا، بل كان ممنهجا ومدعوما من الدولة، إذ كشفت صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية فى تقرير نشر عام 2009 عن وثيقة داخلية لوزارة الخارجية، تنص على أن الهدف من تمويل مشاركة الفنانين هو تحسين صورة إسرائيل وخدمة مصالحها السياسية من خلال الثقافة والفن، فى إطار مشروع دعائى يحمل اسم .Brand Israel  وتضمنت الوثيقة تصريحات لمسئولين قالوا: «سنرسل كتّابا ومسرحيين وفنانين إلى الخارج ليظهروا الوجه الجميل لإسرائيل حتى لا يُنظر إلينا فقط من زاوية الحرب».

كما كشفت The Electronic Intifada لاحقا، أن بعض الفنانين الذين دُعيوا بتمويل حكومى طُلِب منهم ضمنيا أو صراحةً عدم انتقاد السياسات الإسرائيلية خلال مشاركتهم فى الفعاليات الثقافية الدولية، ما يوضح كيف تحوّلت الثقافة إلى أداة لتلميع الاستعمار وتكميم الأفواه فى آن واحد.

فيما يخص تراند جيبلى، ما فعلته إسرائيل يتجاوز تبييض الجرائم، إلى قرصنة رمزية لفن لطالما عارض العسكرة. فميازاكى لا يُنتج فنا تجميليا، بل فنا يحمل موقفا أخلاقيا واضحا من الحرب. سرقة أسلوبه فيما تُرتكب جرائم بحق الأطفال، تهجير قسرى، وخرق للقوانين الدولية، هى استخدام ساخر للرمزية ذاتها التى تعارض ذلك كله.

تحوّل الجندى القاتل إلى شخصية «أنيمى» لطيفة، وكأن المجازر لوحة مائية بريئة. هذا التحوّل البصرى ليس بريئا، بل يُستخدم لتغيير السرد، لتسويق وهم إنسانى فى زمن تطمس فيه الجثث تحت الركام.

لا يقتصر الأمر على الجانب البصرى، بل هو محاولة لإعادة تشكيل الذاكرة الجماعية. فبدلا من صور القتلى، يُراد لنا أن نتذكر صورا «ناعمة» لجنود بأسلوب أنيمى. إنها محاولة لتطبيع الجريمة من خلال الجمال.

مواجهة «تبييض الفن» لا تقع فقط على عاتق الفنانين، بل أيضا على الجمهور والإعلام. ما فعله روّاد منصات التواصل، حين فضحوا استغلال إسرائيل ترند جيبلى، هو عمل مقاومة رمزية بحد ذاته. كذلك دور النقاد، والمؤسسات الثقافية، فى رفض التطبيع البصرى مع الجريمة.

الفن ليس أداة منفصلة عن سياقها، ومن يستخدمه فى زمن الإبادة، مسئول عن الرسائل التى يبثّها.

• • •

أفلام ميازاكى علمتنا كيف نحزن على غابة مقطوعة، كيف نخاف من الحرب، وكيف نحلم بعالم أفضل. حين تُستخدم هذه اللغة الفنية فى خدمة الآلة العسكرية، يصبح من واجبنا أن نُسمى الأشياء بأسمائها: هذه ليست مشاركة فى ترند، بل توظيفٌ للفن فى تزييف الحقيقة.

 

سندريلا عازار

موقع 180

النص الأصلى:

 

التعليقات