أحد الأسئلة الأساسية التى تطرحها الفلسفة هى: هل المجتمع فى أساسه تجمٌّع مجموعة من الأفراد، لا أكثر ولا أقلُ، أم أن الأفراد تخلقهم مجتمعاتهم التى يعيشون فيها؟ هذا سؤال مرتبط مباشرة بحرية الإنسان: هل يمارس حريته كفرد مستقل حسب قناعاته العقلية والضميرية، أم أنه يمارس حريته حسبما يقوله المجتمع أو ما يسمح به؟
لنحاول فهم الموضوع من خلال نتائج الانتخابات البلدية الجزئية التى جرت منذ بضعة أيام فى لبنان. إن غالبية الشعب كانت غير راضية، بل وساخطة ومصابة بالقرف والإحباط، بسبب عدم كفاءة البلديات فى قيامها بمهماتها المجتمعية. ووصل عدم الرضا ذاك إلى قمُته فى مظاهرات جماهيرية صاخبة بسبب أزمة جمع القمامة والتخلص منها الشهيرة، عندما امتلأت شوارع مدن وقرى لبنان بالقمامة وروائحها الكريهة.
كرد فعل لتلك الأزمة كان من المفترض أن تخرج نسبة هائلة من الشعب اللبنانى لتصوت، وتخرج كل أعضاء المجالس السابقين، وتأتى بوجوه جديدة نظيفة كفؤة. لكن ذلك لم يحدث، فنسبة المنتخبين كانت هزيلة، والتصويت ذهب لصالح قوائم الأحزاب المتًّهمة بالفساد والطائفية وخدمة العائلات الغنيًّة المتنفًّذة.
***
لقد أثبت ذلك المشهد اللبنانى، وهو مثل واحد من مئات الأمثلة العربية المماثلة، أن غالبية الأفراد اللبنانيين لم يتصًّرفوا كأفراد أحرار مستقلًّين خاضعين لعقولهم وضمائرهم، وإنما تصُرفوا كنتاج لما تمليه ثقافة مجتمعهم الطائفية العشائرية الخاضعة فى قيمها لمصالح أقليات المال والوجاهة الطائفية والعائلية فى المجتمع اللبنانى. لقد ضرب الفرد اللبنانى بعرض الحائط مشاعره الشخصية وآماله المجتمعية ومواقفه الغاضبة السلبية تجاه طبقة الحكم السياسية، والتى عبر عنها فى مظاهرات بيروت الصاخبة الرائعة منذ بضعة شهور، واستبدلها بالخضوع لإملاءات الطائفة والحزب وزعيم المنطقة وبممارسة انتهازية للسياسة.
فى لبنان، كما فى كل الأرض العربية، نحن إذن أمام مجتمع ينتقد سلطة الحكم فى بلده ليل نهار، ويخرج عليها احيانا بالمظاهرات والاعتصامات وأحيانا بالسلاح، لكنه يظلُ فى كل المناسبات ممارسا لعادات وسلوكيات بدائية متخلًّفة تزيد فى بؤسه وعجزه وهوانه أمام سلطة حكم الدولة. إنه مجتمع يتكلم عن الحرية ولكنه لا يمارس متطلبات وجودها، ينتقد الفساد ولكنه لا يقاومه فى داخله، يتكلم ويثرثر ويطلق النُكات عبر التواصل الاجتماعى ولكنه لا يقلبه إلى فعل سياسى، حتى عندما يحصل على فرصة لعمل ذلك.
لا نعنى بذلك الحكم القاسى على مجتمعاتنا تبرئة أنظمة الحكم التى تضع العراقيل تلو العراقيل، عبر السنين والقرون، أمام نضوج المجتمعات ومؤسساتها المدنية، فقد كتب الكثير عن تلك العراقيل. لكننا معنيُون بالتذكير بأن الدولة هى مكوُنه فى الأساس من مجتمع وسلطة حكم.
***
ولما كانت سلطات الحكم مليئة بالمثالب ونقاط الضُعف، فإنُ الدولة العربية لن تخرج من ضعفها وفشلها التنموى وخضوعها للخارج وعجزها عن ممارسة العقلانية والعدالة والتجديد والانخراط فى العصر، لن تخرج إلا إذا قام المجتمع، ممَّثلا فى الأساس بأفراد ملتزمين ومؤسسات مدنية نشطة وفاعلة، بمسئولياته تجاه دولته. مسئولية المجتمعات العربية فى إخراج دولها من الجحيم الذى تعيشه الآن أصبحت مسئولية تاريخية ثقيلة ومعقُّدة، ولكنها ملحُة ومصيريًة.
لكن المجتمعات التى لا تستطيع أن تثور على نفسها، على نقاط الضعف فيها، على كل تخلُف فى ثقافتها، على كل تراث بليد استلمته من تاريخها، حتى تخلق أفرادا أحرارا جديدين فاعلين، فإن تلك المجتمعات ستضيف عجزها إلى عجز الحكم العربى التاريخى، والعجزان سيقودان إلى دول فاشلة كسيحة كما نراها الآن ماثلة أمامنا عبر الوطن العربى، إذ يعيش بؤسا تاريخيا لم ير مثيله.
لنتمعن فى غياب المجتمعات، القادرة الفاعلة المتحررة من بلادات ثقافتها وسلوكياتها وعاداتها، فى فلسطين وهى تواجه الصهيونية المغتصبة، فى الدولة الليبية وهى تصارع الموت والاندثار، فى دولة سوريا وهى تنزلق نحو أن تصبح جيفة مهترأة، فى دول المغرب العربى وسلطاته لا تملُ من التلهى بموضوع الصحراء وعدم التقدم ولا بخطوة واحدة نحو اتحاد مغاربى حقيقى غير صورى، فى دولة مصر وهى تواجه الإرهاب والدمار الاقتصادى وإمكانية الرجوع إلى الاستبداد الأمنى، فى دولة العراق وهو يواجه التقسيم والنهب والجهاد التكفيرى بأدوات سياسية طائفية فاسدة تراوح مكانها وباستجداء بائس للخارج ليخرجه مما هو فيه، فى دولة اليمن وهى ترى تضحيات شعبها لتحرير دولته من الاستبداد والفساد تذهب هباء فى صخب مداولات لا تنتهى فى الكويت.
الأمثلة كثيرة حيث فى كل مكان يلعب اللاعبون الخارجيون بتناغم مع سلطات الفساد فى الداخل، بينما لا يشعر الإنسان بأن هناك مجتمعات لها كلمة وإرادة تنظيم فى فعل وليس فى بكاء أو حسرة أو وقوف المتفرج أو فى قبول أن تصبح هى، المجتمعات، أدوات فى يد القوى الطائفية أو القبلية أو العسكرية أو المالية أو حتى الخارجية.
***
المجتمعات، كأفراد ومؤسسات، تحتاج أن تراجع ما فعلته هى بنفسها لتنتقل إلى ما يجب أن تفعله لإنقاذ نفسها وإنقاذ دولها.
هناك قول لسياسى بريطانى: المجتمع يحتاج لأن يصدر أحكاما أكثر ويتفهم أقل. المجتمعات العربية تحتاج أن تمارس ذلك ليس فقط بحق سلطات دولها وإنما أيضا بحق نفسها كجزء أساسى من تلك الدول.