نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب غسان شربل وجاء فيه:
يفترض أن تكون زيارة رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى إلى طهران، علامة مميزة فى الجهود الرامية إلى خفض التوتر فى الأزمة الإيرانية ــ الأمريكية. وللزيارة خصوصيتها لأسباب كثيرة. إنها المرة الأولى التى يزور فيها رئيس وزراء يابانى إيران منذ الثورة التى شهدتها فى 1979. ثم إن الزيارة تتم بتشجيع أمريكى واضح وبقبول إيرانى صريح تمثل فى تحديد موعد للزائر مع المرشد على خامنئى صاحب الكلمة الأخيرة فى رسم الخيارات الإيرانية الكبرى.
المواقف التى تطلق فى مرحلة استكشاف إمكانات التفاوض هى جزء من التفاوض نفسه. ولا غرابة أن تحفل بالإشارات المتناقضة. ولعبة التفاوض صعبة ومعقدة ولا يغيب التضليل عن مراحلها. وستر نقاط الضعف بالمواقف المتشددة والسقوف العالية أسلوب تقليدى فى الاستعداد والتذكير بالأوراق. ولإيران تجربة طويلة فى هذا الموضوع، إذ إنها كانت فى العقود الأربعة الماضية طرفا فى علاقات شائكة ومعقدة، خصوصا مع الدول الغربية وفى طليعتها الولايات المتحدة.
فى الدوائر الدبلوماسية همس مفاده أن إيران مضطرة إلى إبداء قدر من المرونة، إذا أرادت فعلا اختصار عمر الأزمة والخروج من «العقوبات الموجعة» التى ظهرت آثارها بوضوح على اقتصادها ويوميات عيش مواطنيها. ويشير دبلوماسيون إلى أن طهران قد تكون مستعدة لإبداء قدر من المرونة فى مسائل محددة من نوع إيصال أسلحة الدمار الشامل، أى ما يتعلق بمدى الصواريخ الباليستية. ويميل هؤلاء إلى القول إن إيران التى أظهرت دائما اهتماما بالمحافظة على العلاقات مع دولة بثقل اليابان الاقتصادى والتكنولوجى ربما ستتحاشى اتخاذ مواقف قاطعة ونهائية تؤدى إلى فشل الزيارة وتعزيز موقف المتشددين فى الإدارة الأمريكية.
فى المقابل، تبدى طوكيو اهتماما كبيرا بالخروج بشىء يشبه الثقب فى جدار الأزمة الحالية. وهذا الموقف يمكن فهمه فى ضوء الأهمية التى توليها طوكيو للمحافظة على الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط التى تشكل مصدر 90 فى المائة من وارداتها من الطاقة. استقرار الشرق الأوسط بند ثابت فى تعامل طوكيو مع المنطقة، وهى تلتقى فى هذا الطلب مع الصين المعنية هى الأخرى بهذا الاستقرار الحيوى لاقتصادها.
يمكن القول إن آبى، ورغم الطابع شديد التعقيد للأزمة، يجد ما يمكن الانطلاق منه للبحث. فبعد الإجراءات العسكرية التى اتخذتها فى المنطقة، حرصت واشنطن على التأكيد أنها لا تسعى إلى الحرب، وأنها تفضل خيار التفاوض إذا أظهرت طهران الجدية اللازمة، وأنها لا ترغب فى تغيير النظام، بل تعديل سلوكه. وبدورها، قالت طهران إنها لا تسعى إلى الحرب وهى بالتأكيد تعى الأثمان التى يمكن أن تترتب على مواجهة مباشرة مع الآلة العسكرية الأمريكية. وبين المراقبين من يعتقد أن خيار التحرشات الصغيرة أو الضربات بالواسطة ليس متاحا لإيران فى الأزمة الحالية، خصوصا بعدما تسلمت تحذيرات صارمة من الجانب الأمريكى. وخيار التسبب بحرب بديلة فى المنطقة يبدو صعبا هو الآخر لأنه سيشكل دليلا على أن الاتهامات الأمريكية لإيران بتحريك أذرعها فى المنطقة تنطلق من قراءة واقعية.
قبل أربعة أيام من وصول آبى، حدد المجلس الأعلى للأمن القومى الإيرانى ما اعتبره شروط نجاح مهمة الزائر. وقال الناطق باسم المجلس كيوان خسروى إن «عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووى وتعويض خسائر إيران ورفع العقوبات الدولية التى فرضتها واشنطن من الممكن أن تضمن النجاح». وحرص خسروى فى الوقت نفسه على الإشادة بالعلاقات بين طهران وطوكيو. وقال إنها «شهدت مسارا متوازنا فى غالب الأوقات» وإن «نهج اليابان فى السياسة الخارجية يدعم بشكل أساسى المعايير القانونية والسياسية التى يتبعها المجتمع الدولى، ولم تتأثر بتقدم وتأخر التطرف». وإذا كان الجزء الأخير من الكلام يؤكد اهتمام إيران بالقناة اليابانية، فإن الحديث عن شروط نجاح الزيارة يندرج فى باب السقوف العالية. فلو كانت واشنطن مستعدة للعودة إلى الاتفاق النووى لما كانت هناك أزمة أصلا.
كلام المتحدث باسم مجلس الأمن القومى ترافق مع كلام لوزير النفط الإيرانى بيجن زنغنه أقر فيه بـ«بلوغ» الولايات المتحدة مرحلة النضج فى وضع العقوبات الذكية على بلاده. وقال إن العقوبات الأمريكية «مختلفة ومؤثرة» عن العقوبات السابقة، مشددا على أن وزارته «تكافح» من أجل الالتفاف على العقوبات الأمريكية وتخطى الظروف الحالية. واعترف أن قسوة العقوبات لم تقتصر على النفط، بل أصبحت أكثر شدة على قطاع النقل البحرى والبنوك.
وفى سياق غابة الإشارات الوافدة من طهران، وعشية زيارة وزير الخارجية الألمانى هايكو ماس لطهران اليوم، صعد وزير الخارجية محمد جواد ظريف لهجته ضد الأوروبيين، ودعاهم إلى تطبيع علاقاتهم التجارية مع بلاده، ملوحا بعواقب إن لم يفعلوا. وبدوره، حمل رئيس البرلمان على لاريجانى على تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون خلال لقائه مع نظيره الأمريكى ووصفها بأنها «مخزية». وكان ماكرون تحدث عن ضرورة الوصول إلى «يقين كامل على المدى الطويل بالحد من النشاط الباليستى واحتواء إيران إقليميا».
ولعل العبارة الأخيرة لماكرون هى المشكلة والمفتاح. بخروجه من الاتفاق النووى وفرضه عقوبات غير مسبوقة على إيران، أعاد دونالد ترامب طرح المسألة التى كانت طهران نجحت فى إبقائها خارج التفاوض مع إدارة باراك أوباما، وهى مسألة الدور الإقليمى والصواريخ الباليستية. وثمة من يقول إن ظريف كان لمح لنظيره الأميركى إبان المفاوضات التى انتهت بتوقيع الاتفاق النووى إلى أن موضوع الصواريخ والدور الإقليمى قابل للبحث لاحقا. لكن المرشد سارع إلى إقفال هذا الباب بعد توقيع الاتفاق.
وسط الشكوك العميقة بين طرفى الأزمة وتناقض الرسائل والإشارات سيصل آبى إلى طهران آملا فى تبريد الأزمة وفتح كوة فى الجدار. والخيارات ليست سهلة أمام إيران. انتظار نهاية عهد ترامب ليس خيارا مضمونا خصوصا فى ظل قسوة العقوبات واحتمال فوزه بولاية ثانية.