الحوكمة ومعاييرها.. نظام الحكم المعاصر - مواقع عربية - بوابة الشروق
الجمعة 13 يونيو 2025 11:59 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الحوكمة ومعاييرها.. نظام الحكم المعاصر

نشر فى : الأربعاء 11 يونيو 2025 - 8:40 م | آخر تحديث : الأربعاء 11 يونيو 2025 - 8:40 م

أسس الحوكمة ظهر مصطلح الحوكمة فى تسعينيات القرن الماضى على أثر الأزمات المالية التى تعرضت لها الشركات العملاقة وانعكاس هذه الأزمات على الاقتصادات والأسواق. والحوكمة هى «مجموعة القواعد والقوانين والأسس التى تضبط عمل الشركات وتحقق الرقابة الفعالة على مجلس إدارتها وتنظيم العلاقة بينها وبين أصحاب المصلحة، وذلك بهدف تحقيق الشفافية والعدالة ومكافحة الفساد». هذا الإطار ما لبث أن اتسع ليشمل حكم المجتمعات وفقًا للحوكمة التشاركية باعتبارها النموذج المعاصر للديموقراطية، التى تضمن مشاركة المواطنين فى عملية صنع السياسات وتنفيذها. ومع ازدياد الآثار السلبية ــ الاجتماعية والبيئية الناتجة عن إدارة المشاريع الاقتصادية الكبرى، أخذت الحوكمة بعدًا جديدًا من خلال تضمينها المسئولية الاجتماعية والمعايير الأخلاقية، وتمثلت بمفهوم الحكم الرشيد. وتتحقق رشادة الحكم من خلال تضمينه القيم والأخلاق. أصبحت هذه «القيم والأخلاق» هى المظلة التى يفترض أن ترعى مناقشة الحكم، ولعل أهمها العدالة. وتصبح بذلك النتائج الفعلية المرتبطة بتحقيق التنمية المستدامة، وهى النموذج الحديث للعدالة الاجتماعية، من معايير نجاح آليات ترشيد الحكم. نلفت الانتباه هنا إلى أن المحاسبة والمسئولية، فى ظل الحكم الرشيد، لا تعنيان بالضرورة البعد القانونى، وإنما تحملان فى طياتهما مسئولية المحاسبة الاجتماعية والمسئولية الاجتماعية، بما يفعّل الدور المجتمعى فى التفاعل والتناغم مع آلية الحكم ومراحل تحقيقه.
القضاء فى مواجهة مخاطر الحوكمة
وبرغم مثالية هذا التوجه وطموحه، إلا أنه لا يخلو من مخاطر على مستوى التفعيل. وبموجب أدبيات الحوكمة وأدواتها، أُدخلت عملية حكم المجتمعات ضمن معايير علوم الإدارة لخدمة الاقتصاد، وأصبحت السياسات تبنى على أساس قياسات رقمية لتقييم المشاريع. وتحول الإنسان وجهده وحاجاته إلى أرقام فى عالم الاقتصاد، وأصبح جدوى المشاريع وكذلك جدوى القوانين يقاسان على أساس إنتاجيتهما الاقتصادية فى السوق، واستخدمت المناهج الاحصائية لتقييم هذا النجاح، وأخذت العدالة بعدًا حسابيًا رقميًا مخالفًا لبعدها الإنسانى الاجتماعى. نلحظ مثلاً اعتماد الكوتا العددية للمساواة بين الجنسين كمعيار لاحترام معايير التصنيف. ينضوى هذا التوجه على ربط هذه السياسات بعمليات قياس بعيدة عن الواقع الاجتماعى الذى انحصر أمر تقديره ضمن صلاحيات القاضى، لتحقيق العدالة والبحث عن الإنصاف سندًا لمتطلبات الحكم الرشيد.
ويبرز هنا دور القضاء فى مواجهة هذا الواقع، فهو سلطة حكم تخضع لمعايير الحوكمة وأسسها فى التعيين والممارسة، وهو الجهة المعنية فى الرقابة والمحاسبة القانونية لتفعيل الحوكمة، وهو المعنى بتحديد معايير الإنصاف فى ظل المتغيرات المستمرة، وهنا تكمن إحدى أهم الخصائص التى تتجسد فى دوره فى ظل الديموقراطية المعاصرة. وفى مواجهة كل الأطراف المتداخلة فى التأثير والمشاركة، تأخذ استقلالية القضاء بعدًا جديدًا.
الحوكمة والشرعية
ومع التطوّر الذى لحق بمفهوم الديموقراطية ومعنى شرعية الحكم برزت معايير جديدة مرتبطة بتمثيل الأطراف المعنية– أو الفئات الاجتماعية– فى سلطة القرار ومنها القضاء. بالعودة إلى أسس الديموقراطية التقليدية، تميزت السلطتان السياسيتان -التشريعية والتنفيذية – عن السلطة القضائية فى الدول التى تعتمد نظام القانون المكتوب. ففى وقت كانت شرعية الحكم مبنية على معايير التمثيل السياسى للمكونات الاجتماعية، بقى القضاء بعيداً عن هذا الارتباط ضماناً لاستقلاليته وتفعيلاً لدوره، باستثناء دور النيابات العامة المرتبط بالسلطة التنفيذية.
وذلك بخلاف النظام القضائى فى دول القانون العرفي، حيث يعيّن رؤساء المحاكم على خلفية انتمائهم السياسي، وتشكل القواعد الراعية للنظام القانونى عموماً والنظام القضائى ضمانة لدور هذه السلطة واستقلاليتها. ومع التوجهات المعاصرة للديموقراطية، تم التركيز على أهمية الإلتفات إلى الأطراف المعنية فى المشاركة فى عملية اتخاذ القرار، وظهرت أشكال جديدة من معايير العدالة. واكب هذه التغّيرات معيار تمثيل الفئات المختلفة فى سلطة القرار، على غرار تمثيل النساء باعتباره معيارًا لإضفاء عنصر أساسى من عناصر الشرعية على تشكيلها.
ومن ضمن هذا التوجه، أخذت الشرعية بعداً جديداً مرتبطاً بتمثيل المجتمع بمكوناته المختلفة. هذه الشرعية التى تحترم معايير التنمية المستدامة لا ترتبط بالضرورة بالشرعية القانونية ما لم يوجد هذا الشرط بنصوص قانونية واضحة، بل هى أقرب للمشروعية، وأصبحت معاييرها فى تكوين السلطة القضائية، مبنية على ثلاثة أركان أساسية لم تكن مقبولة سلفًا: حياد النيابة العامة عوضًا عن تمثيلها للسلطة؛ المرونة فى مقاربة الصلاحيات وتطبيق القانون بهدف تحقيق العدالة؛ القرب من المواطن عوضًا عن تطبيق المعنى المجرد لموجب التحفظ والاستقلال عن المجتمع.
الحوكمة وحكم القانون
لا ينفصل هذا الواقع عن الأدبيات المستخدمة فى وصف الدولة الديموقراطية، واعتماد حكم القانون بديلاً عن دولة المؤسسات والقانون التى ميزت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. يرتكز حكم القانون على دور السلطة القضائية بشكل عام، ودور القاضى فى عمله بشكل خاص. كما يرتكز حكم القانون على ثقافة القانون فى المجتمع، إذ يبنى هذا النمط على مجتمع ينظم نفسه، وعلى الدور الاجتماعى لرجال مهن القانون على اختلافها، وعلى الرابط الوثيق بين القوانين وعلوم الاجتماع.
وفى ذلك تحول فى مقاربة القانون من النظرية الوضعية التى تربط القانون بالسلطة إلى النظرية الواقعية التى ترى فى القانون علمًا يفترض أن يدرس آلية إصدار القاعدة المتناغمة مع المجتمع وتفعيله وتقبله من البيئة التى تتلقاه.
وفى هذا المحور بالتحديد تتبلور أهمية الدور المنوط بالقضاء. وإذا كانت مبادئ الحوكمة تقوم على حكم القانون، بديلاً عن حكم دولة المؤسسات، فالحوكمة تعنى التشارك بين الأطراف الثلاثة، والمقصود بها القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدنى، بحيث أصبحت الدولة أحد هذه الأطراف. وركزت التوجهات الحديثة على مؤسسات الدولة القوية، وبالتحديد المؤسسات الأمنية والقضاء المستقل.
فبرز بذلك دور القضاء بشكل أقوى كضابط أساسى للإيقاع الفردى والاجتماعى والاقتصادى والسياسى، ولدور الأمن. فأصبحت المؤسسات القوية فى الدولة هى حامية السيادة، وبذلك يتبين أن القضاء أصبح من أهم ركائز ضمان السيادة. وانطلاقا من مبادئ التشاركية والتفاعل على أساس حكم القانون، يشكل التفاعل بين المجتمع والقاضى والنظام السياسى أحد أشكال الديمقراطية وضمانة لحقوق المواطنين وتحقيقًا العدالة.

التحديات أمام القضاء
أدت التحولات التى فصّلناها آنفًا الى متغيرات فى طبيعة حكم المجتمع، وتحديات عملية مرتبطة بالتنظيم القضائى والصلاحيات الوظيفية للقضاء. نذكر منها: أولاً؛ تداخل التقسيمات التقليدية بين قانون عام وقانون خاص من جهة، ودور القضاء الجزائى فى ربطه بين قوة السلطة التنفيذية واستقلال القضاء من جهة ثانية، مع مخاطر الدور البوليسى وتهديدات الحريات والحقوق المكفولة التى أصبح مداها أكثر بلورة.
ثانياً؛ التحدى المنافس للوسائل البديلة لحل النزاعات التى جذبت أولاً القضايا التجارية وما تلبث تتوسع على حساب صلاحية المحاكم العدلية أو القضاء الرسمى. والذى يخضع بدوره لإرادة الأفراد فعرف بالقضاء الخاص، وللمفاوضة والمفاضلة والتوافق على قضايا ربما تشكل حقوقًا أساسية. دون أن نتجاهل أهمية هذه الوسائل البديلة فى التخفيف عن كاهل القضاء عبء الملفات المتراكمة، وتخفيف حدة النزاعات فى المجتمع، والبحث عن الاستدامة والاستمرارية فى المشاريع. إلا أن البعد الفردى والإرادى لهذه الوسائل يدخل فى هامش التوجه الفردى للمجتمعات على حساب الجماعة، ويعزز الحلول التوافقية للمصالح على حساب الأطراف الأضعف فى واقع اختلت فيه موازين القوى. هذا الواقع يهدد العدالة عموما والانتظام الاجتماعى والشعور بالانتماء، ويشكل جزءا من ثقافة المرونة المنبثقة عن قواعد السوق أكثر من قواعد الحكم.
ثالثا؛ تحدى العالم الرقمى والذكاء الاصطناعى على عمل القاضى: وهنا نُميّز بين الدور التقنى للقاضى فى تطبيق مجرد للقانون وبين دوره الإنسانى المبنى على البحث عن التوازنات والتعمق فى الأبعاد القانونية والاجتماعية ودوره الاجتهادي. يصبح هذا الدور مطلوبا أكثر، ويحتاج للجرأة فى عمل القضاء ما يستدعى استقلالية أكثر وحصانة أكبر وضمانات أشمل. ويصبح ذلك ضروريا أمام التغيير المتعلق بمصادر القاعدة وثقافة الحريات المتزايدة لحماية المصالح الخاصة، وضعف قدرة الدولة على فرض النظام العام. فالنظام العام بطبيعته مفهوم يتطور فى الزمان والمكان، ويخضع لتحور وهو بحاجة لتحديد أبعاد جديدة، وبخاصة بطبيعة المجتمع برغم العولمة التى تفرض نفسها. وبموجب هذا الدور الاجتهادى المتزايد لمواكبة التحولات المتسارعة ومواجهة التحديات المتتالية، أصبح القاضى سلطة قانونية بذاتها.

عزة الحاج سليمان
موقع 180
النص الأصلى:
https://bitly.cx/o0apf

التعليقات