زيارتى إلى دمشق أراحت محفوظ وعززت صداقتنا (2) - إبراهيم العريس - بوابة الشروق
الخميس 11 سبتمبر 2025 11:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

زيارتى إلى دمشق أراحت محفوظ وعززت صداقتنا (2)

نشر فى : الخميس 11 سبتمبر 2025 - 7:55 م | آخر تحديث : الخميس 11 سبتمبر 2025 - 7:55 م

حدث ذلك عند نهاية سبعينيات القرن الفائت. كنت رئيسًا لتحرير مجلة ثقافية شهرية هى «المسيرة»، التى أسستها ضمن إطار دار النشر التى تحمل الاسم نفسه فى بيروت، بعد مداولات ونصائح من الفنان الكبير الصديق حلمى التونى. وكانت المجلة، لظروف معينة، تتلقى دعمًا «شخصيًا» غير معلن من وزير الإعلام السورى أحمد إسكندر أحمد، الذى كان محبًا للثقافة بصورة استثنائية. وقد قدم ذلك الدعم انطلاقًا من أن «المسيرة» تسير فى خط «وطنى»، ولذا لا يجب أن تنال دعمًا «رجعيًا» أو «عراقيًا» – ومن المعروف دائمًا على أى حال أن كل مطبوعة تصدر فى لبنان لا يمكنها أن تعيش دون دعم خارجى.

المهم أننى ذات يوم، وأنا فى مكتبى فى «المسيرة»، رن هاتفى، وكان على الطرف الآخر من الخط الصديق الكاتب جمال الغيطانى الذى قال إنه فى بيروت ويريد أن يرانى فى أمر يهمنى. بعد نصف ساعة كنا معًا، جمال وأنا، وهو بادرنى بالسؤال عمّا إذا كان يهمنى أن أنشر فى «المسيرة» فصولًا من «مذكرات نجيب محفوظ»، التى كان قد أعدها للنشر على حلقات فى صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية التى كانت – ولا تزال – تصدر فى لندن.

نظرت إلى الغيطانى متسائلًا ومندهشًا، ليكمل قائلًا دون المزيد من المقدمات: إن الصحيفة قد توقفت عن نشر المذكرات لأن ما كان يُسمّى حينذاك «جبهة الصمود والتصدى»، التى قامت لمجابهة مبادرة الرئيس السادات وزيارته للقدس وسلامه مع إسرائيل، قررت مقاطعة كل ما هو مصرى، ولا سيما المصريون الكبار الذين «أقل ما يمكن أن يقال عنهم إنهم سكتوا عن مبادرة السادات إن لم يؤيدوها». وكان نجيب محفوظ فى عدادهم، بل فى مقدمتهم، فمُنع تداول كتبه فى دول «الجبهة» كما فى دول أخرى. وسايرتهم عواصم أخرى فى ذلك.

وهكذا – استطرد الغيطانى قائلًا – «توقف نشر مذكرات أستاذنا الكبير. فما رأيك وكيف العمل؟». أجبته على الفور: «هات الحلقات فأنشرها فى (المسيرة)، وهات المذكرات كلها لننشرها فى دار المسيرة!». نظر إلىّ جمال بين مكذّب ومصدّق، وتمتم: «… لكنكم مدعومون من وزارة الإعلام السورية؟». قلت له أن يدع الأمر لى. نظر إلىّ جمال الغيطانى غير مصدّق، قبل أن يعطينى الحلقات المتبقية من مذكرات محفوظ وينصرف.

بعد أيام، كنت فى دمشق بناءً على موعد مع وزير الإعلام الصديق. حدثته فى الأمر، فقال «إنه ليس لديه مانع، فأدب محفوظ ملك الأمة العربية، فإذا كان هو قد خان تراثه وأدبه فهذان براء منه. لكنى أريد منك يا صديقى – أضاف – أن ترى وزيرة الثقافة السيدة نجاح العطار، لأن جماعتها – الشيوعيين، وعلى رأسهم حنا مينه – قد يزايدون علينا، أى على البعثيين ذوى التوجه الناصرى، فنعجز عن تنفيذ ما تطالب به».

يومها، ومن فورى، اتصلت بنجاح العطار، فأعطتنى موعدًا سريعًا بناءً على تدخل حنا مينه الذى كنت قد اتصلت به عارضًا عليه ما أنا بصدده، فأعلن مساندته لى. والحقيقة أن الوزيرة العطار وافقتنى من فورها ما إن شرحت لها الموضوع. وكان أن أُلغى الحظر عن كتب محفوظ فى سوريا، وتمكنت أنا من نشر عدة حلقات من المذكرات، كما نشرت كتاب الغيطانى عن أستاذنا محفوظ.

طبعًا سررت أنا شخصيًا بما فعلت، غير أن سرورى كان أكبر بكثير حين رن هاتفى بعد فترة، ليكون على الخط هذه المرة الصديق يوسف القعيد من القاهرة ليقول لى من فوره: «الأستاذ نجيب يريد أن يسلم عليك». فوجئت فى الحقيقة، فأنا لم أكن أعرف أستاذنا من قبل شخصيًا. كان بالنسبة إلىّ – كما بالنسبة إلى الملايين من أبناء جيلى – أقرب إلى الأسطورة. وكنت دائمًا، لخوفى من اللقاء به، فى كل مرة أزور فيها القاهرة أؤجل لقاءات معه كان يقترحها علىّ الغيطانى أو القعيد أو الاثنان معًا.

ثم ها هو الآن يكلمنى من القاهرة الحبيبة. بدا الأمر لى أشبه بمعجزة لا تُصدق. وعبر الخط الهاتفى سمعت صوتًا ضاحكًا يقول بمرح متبسط: «إيه يا عريس… دانت طلعت عريس بالفعل». احترت ماذا أجيب، لكنى تمالكت نفسى وأبديت له تقديرى وإعجابى، بل حتى تأييدى لمواقفه، وقلت له إننى أتطلع للقاء به منذ زمن. فقال بصوت صديق قديم: «ومستنى إيه؟». ثم شكرنى مرة ثانية على ما فعلت. فشرحت له كيف أن المسئولين السوريين تجاوبوا مع مساع دون تردد. «بل قالوا عنك كلامًا فى غاية الإيجابية». فسألنى عمّا إذا كان يتوجب عليه أن يقوم بمبادرة ما تجاههم، فاقترحت عليه أن يتصل بوزير الإعلام ليشكره على مبادرته وتجاوبه، وأعطيته رقم الوزير.

ثم توافقت مع محفوظ على أن أزوره برفقة الصديقين الغيطانى والقعيد فى أول توجه لى إلى القاهرة. والحقيقة أن الوزير أحمد إسكندر أحمد اتصل بى بعد يومين معلنًا فرحه لأن نجيب محفوظ اتصل به وشكره. «فكان جوابى له – قال الوزير على الهاتف – كم نجيب محفوظ عندنا فى وطننا العربى؟». تلك الحكاية توقفت عند تلك المكالمة التى أفرحتنى شخصيًا. لكن ما يتعلق منها بنجيب محفوظ له تكملة لا تخلو من طرافة.

ذلك أنه حدث بعد شهور قليلة أن أراد الوزير – كما يبدو – أن يحصل منى على مقابل سياسى لما «خدمنى» به فى قضية محفوظ. فذات يوم ومن دون مقدمات وجدت ورقة صغيرة موضوعة على مكتبى، ورقة فيها تقريبًا ما يلى: «عزيزى إبراهيم، لمسائل تتعلق بالأمن القومى أرجو منك أن تمتنع فى (المسيرة) عن نشر أى شىء يتعلق بحيدر حيدر أو ميشال كيلو أو شوقى بغدادى»، إضافة إلى اسم رابع لم أعد أذكره الآن.

شعرت بالغثيان، مع أن الورقة لا تحمل توقيعًا، لكن الخط خط أحمد إسكندر أحمد الذى أعرفه جيدًا. فكرت طويلًا متسائلًا: ما العمل الآن؟ ذلك أنى فهمت أن «المسيرة» دخلت حيز التدخل الرسمى السورى. ولقد زاد الطين بلة أننى بعد أيام قليلة تلقيت من دمشق رسالة أخرى من وزير الإعلام، أرعبنى ما فيها من جديد: كان ما فيها مقال بقلم الباحث السياسى والعسكرى السورى بسام العسلى، المعروف بعلاقته الوثيقة مع وزير الدفاع مصطفى طلاس. كان المقال عن التاريخ البطولى للجيش السورى، مع إلحاح بالنشر فى العدد المقبل من «المسيرة» للضرورة القصوى.

هنا لم يعد الأمر مزاحًا. ففى ذلك الحين كان النظام والجيش السوريان يحتلان لبنان، وكنت أعزل تمامًا فى مواجهة مثل هذه المعضلة. ولما كان من عادتى منذ ذلك الوقت المبكر أن ألجأ إلى الكاتب الصديق رضوان السيد لأشكو إليه همومى، اتصلت به طارحًا عليه المشكلة، فكان جوابه: «افعل ما يمليه عليك ضميرك وكرامتك، واترك الباقى على».

والحقيقة أننى عملت بما نصحنى به رضوان السيد: قررت أن يكون العدد الذى أعده من «المسيرة» عددها الأخير، دون أن أخبر أحدًا بذلك. وفعلت ما يلى: بحثت فى المواد التى تصل إلى المجلة عن كتابات تتعلق بالأربعة الذين طلب إلىّ الوزير عدم النشر لهم، فوجدت حوارًا مع حيدر حيدر، ومقالًا لميشال كيلو، وترجمة بعث بها إلىّ شوقى بغدادى لقصة أمريكية قصيرة عنوانها «الورقة الأخيرة». ثم حررت المقال عن «تاريخ الجيش السورى وبطولاته»، مضيفًا إليه مقدمة تعد القراء بأن هذا المقال سيكون الأول من سلسلة عن تاريخ كل جيش عربى على حدة، على أن يكون المقال التالى عن «الجيش العراقى».

وطُبع العدد بالفعل. وحين صدر ووزّع، ذُهل صاحب المجلة والدار، الذى كان اتفاقى الأساسى معه أن لا يتدخل فيما أنشره إلا بعد النشر! وحين دخل مكتبى محتجًا، قلت له إننى أنسحب من رئاسة التحرير صونًا له ولمصالحه، فلم يمنعنى.

توقفت المجلة فى الوقت الذى جمعنى رضوان السيد بالرئيس صائب سلام، لأتفق معه على إصدار مجلة «المقاصد» التى ستكون لها حكاية أخرى. وفى ذلك الحين كان قد أُعلن توقف «المسيرة». فرَنّ هاتفى ذات يوم لأجد يوسف القعيد يخبرنى أن الأستاذ نجيب يريد أن يتكلم معى. وعلى الفور سمعت أستاذنا الكبير يعلن لى أسفه بصوت حزين إذ اعتقد أنه هو من تسبب فى توقف المجلة عن الصدور. فضحكت، بل أغرقت فى الضحك، وأنا أردّد: بل إنك أنقذتنى من ورطة! فدهش محفوظ لما أقول، قبل أن أروى له ما حدث باختصار. ولاحقًا حين التقينا فى القاهرة للمرة الأولى، قال لى: «إذا فأنت الذى استغللتنى لمآربك يا عريس، وأنا الذى كنت أعتقدك مسكينًا مظلومًا»، وهو يستغرق فى الضحك.

إبراهيم العريس إبراهيم العريس
التعليقات