- عندما يصل السينمائى إلى لعبة مرايا مدهشة فى حد ذاتها مع موضوعه ليتجاوز نفسه
منذ البداية هنا، لا بد من توضيح. فالمقال التالى مقال سينمائى، لكنه ليس مقالًا فى النقد السينمائى، بل هو مقال فى فن الصورة وصناعتها من دون أن يكون موضوعه فيلمًا تحقق بالفعل. وهو، إلى ذلك، فيلم فى العلاقة بين اللغة البصرية واللغة المكتوبة، من دون أن يزعم ذلك. وأخيرًا، هو نص يدنو من مسألة التخييل الذاتى، وليس فى المجال الأدبى وحده هذه المرة. كما سوف نرى.
لكاتب هذه السطور دراسة مطولة بعض الشىء نشرتُها على حلقات قبل سنوات تحت عنوان «الأفلام الأشباح»، مجموعة من مشاريع سينمائية تضم أفلامًا اعتبرتها «كبيرة» فى تاريخ السينما، مع معرفتى أن أيًا منها لم يتحقق، بل بقيت حبرًا على ورق. ولكن أى حبر؟! وأى ورق؟! فالحدث دار يومها حول «نابليون» لستانلى كوبريك، و«دون كيشوت» لأورسون ويلز، و«فى قلب الظلمات» عن رواية كونراد التى حلم بأفلمتها ما لا يقل عن نصف دزينة من مخرجين كبار جدًا فى عالم السينما.. واللائحة تطول.
فى تلك الدراسة اعتبرت أن مجرد وجود المشاريع الفيلمية مكتوبة وموضبة وجاهزة للتصوير كما هى، نوع من إنجاز لها يزين، على الأقل، تاريخ المبدعين الذين تنطحوا لتحقيقها. ولقد تذكرت هذه الدراسة فى الأيام الأخيرة لمناسبتين شديدتى الأهمية بالنسبة إلىّ: فمن ناحية، كانت هناك وفاة الكاتب الكبير الصديق صنع الله إبراهيم التى ساهمت فى كسرنا فى زمن الانكسارات الكبيرة الذى نعيشه، ومن ناحية ثانية كان هناك مشروع السينمائى السورى الصديق جود سعيد بتصوير فيلم جديد له، هو الأول الذى يحققه بعيدًا عن وطنه السورى الذى لطالما خدمه فى أفلامه العديدة السابقة، من دون أن تلقى طريقته فى خدمته ترحيبًا كبيرًا منا أو من غيرنا. حتى وإن اكتشفنا دائمًا خلف مواضيعه - التى حدث كثيرًا أن وجدناها متهافتة وقد تخدم النظام أكثر مما تخدم الوطن - اكتشفنا سينمائيًا كبيرًا قلنا له مرارًا: «لقد خدمت النظام أكثر مما يجب، وحان الوقت كى تحقق سينما كبيرة تنتمى إلى فكرك وزمنك الحقيقيين». ويخيل إلىّ أن هذا ما انتهى به الأمر إلى تحقيقه فى فيلميه الأخيرين، لا سيما «سلمى» الذى عرض مرارا منذ سقوط نظام الأسد بعد شهور من تحقيق الفيلم، فإذا به يسلك دربًا جديدًا فى النظر إلى بلده وأحداثها، تجعل الفيلم - ولو جزئيًا - نوعًا من النبوءة تمهد لذلك السقوط، ومن موقع الفكر الحر الناقد والواعى، بعيدًا عن الدوغمائيات الساذجة التى طبعت معظم الإنتاج السورى الفائض عن المواقف السياسية المستعجلة، الآتية من هنا وهناك. لكن فى عودة إلى موضوعنا لا بد من التساؤل: فما علاقة رحيل صنع الله إبراهيم بسينما جود سعيد؟
جوابنا السريع يتعلق بالفيلم الذى يشتغل عليه جود سعيد اليوم، والذى، من دون أن نشاهد سوى بضع صور فوتوغرافية منه حتى الآن، أتيح لنا أن نقرأ نصه التحضيرى وأوراق المخرج من حوله، ومن حول دوافع تحقيقه. ولنسرع إلى تأكيد ما بات معروفًا، وهو أن الفيلم من «بطولة» أدونيس، وسيحمل عنوانًا مستقى حرفيًا ومباشرة من عنوان كتاب جديد للشاعر السورى الكبير هو «هجرة الشمس»، ويُصوَّر بين باريس وبيروت وربما - إن تيسرت الظروف - فى مناطق الساحل السورى. ولنوضح هنا أننا حين نقول من «بطولة» أدونيس فإننا لا نلعب على الكلام، بل نعنيها تمامًا، بالنظر إلى أن الشاعر الكبير، والذى يحث الخطى نحو تسعينياته، قبل ولأول مرة أن يظهر طوال نحو ساعتين أمام كاميرا جود سعيد فى عمل يختلط فيه التوثيق بإعادة إنتاج صور منتزعة من تاريخه، بحوارات تُجرى معه، بشهادات من حوله، وربما فى حضوره - كى يعلق عليها، مبتسما أو ساخرًا أو حتى غاضبًا أو راضيًا - لكن كل هذا يبقى حتى الآن فى علم الغيب بالطبع. فجود سعيد لا يزال فى المراحل التمهيدية المبدئية لعمل لا يتصور حتى هو نفسه كيف سينتهى الأمر به. لكن قراءة الأوراق الممهدة، والتى من المؤكد أنها لم تنل فقط موافقة أدونيس بل حماسته أيضًا، تدفعنا فى اتجاه لا يرى فى هذا المشروع وسيلة للحديث عن معلم كبير من معالم ثقافتنا وإبداعنا العربيين - وطالما نتكلم هنا عن أدونيس: ليس بالمعنى الشوفينى الهوياتى الضيق والسخيف للكلمة، بل بالمعنى اللغوى والحضارى التنويرى لها - بل عن حالة شديدة الخصوصية يمكننا أن نقول منذ الآن إنها ستبدو نوعا من بورتريه سينمائى مزدوج، أحد بعديه يتعلق بأدونيس نفسه، أما الثانى فبجود سعيد. ولعل من الأصح أن نتحدث هنا عن.. لعبة مرايا.
وللتيقن من هذا، قد يكون من الملائم أن نعود بعض السطور إلى الأعلى فى هذا النص، على ضوء الأوراق التمهيدية التى قدم جود سعيد بها مشروعه: السطور الجغرافية التى أشارت إلى ثلاثة فضاءات جغرافية يركز عليها المشروع: باريس، بيروت، والساحل.. العلوى السورى. وانطلاقًا من «العلوية المشتركة» بين صاحبى البورتريهين، «بطل» الفيلم من ناحية، ومن ناحية أخرى كاتب الفيلم ومحققه، الذى سيظهر فى طول الفيلم وعرضه ظهورًا يقود لعبة المرايا التى تعد الأوراق بها، بل تعتبرها ذريعة وجود الفيلم. فجغرافية أدونيس هى نفسها جغرافية جود سعيد، مع فارق لا يقل عن نصف قرن هو فارق السن بين المبدعين. والانتماء المذهبى، العلوى لجود سعيد هو نفسه انتماء أدونيس، بل إن نوعية الانتماء نجدها لدى الاثنين واحدة: لا تتعلق بإيمان دينى محدد ومؤدلج، بل بمشاكسة على جمودية الواقع التاريخية. فالاثنان، فى عمق أعماقهما، علمانيان تنويريان يسلكان فى دروب الإبداع حداثة تعلماها فى بيروت وباريس.
ومن هنا، كما تعدنا الأوراق، لن يكون الفيلم - فى نوايا جود سعيد وربما أدونيس أيضًا - فيلما عن الشاعر الكبير، ولا حتى عملًا ينظر المبدع الشاب من خلاله إلى سلفه الكبير صاحب تاريخ تكوّن لا بد من سبره اليوم - والفيلم ربما يكون طريقة صادقة لمثل هذا السبر على أية حال - لكنه، أى جود سعيد، ينظر من خلاله إلى نفسه وإلى لعبة تكوّنه الفكرى، إلى تاريخه الذى «لولا أدونيس لبدا لى كثير الغموض»، كما قال لى مرة، ويسعى عبره لفهم ذاته الشديدة الخصوصية والشديدة العمومية فى الوقت نفسه.
ونعرف أن فى يقين جود سعيد منذ الآن أن هذا الفيلم سيكون بالنسبة إليه محطة تأمل ذاتية من خلال مبدع كبير يسائل تاريخه بقدر ما يسائله الآخرون. ولعل هذا الجانب من لعبة المرايا، النادرة فى السينما العربية، هو ما يجعلنا - من ناحية - نربط بين المشروع السينمائى الذى استعاد كاتب هذه السطور ذكراه من خلال قصاصات صحف قديمة تضمنت حوارًا أجراه قبل خمسين عامًا مع صنع الله إبراهيم حول مشروع لفيلم عن «القرامطة» كان يعده مع الراحل عمر أميرالاى والسينمائى محمد ملص، فلم يتحقق رغم أن الأوراق الممهدة له تجعله يستحق الانضمام إلى «الأفلام الأشباح»، ومن ناحية ثانية نضم «هجرة الشمس» إلى فئة الأفلام التى تتخذ أهميتها حتى قبل أن تُنجز، من خلال الرغبة فى تحقيقها. ودون أن ننسى هنا أننا كنا من بين من يأخذون على سينما جود سعيد قوة لغتها السينمائية مقابل افتقارها إلى نصوص محكمة. فهل سيسد «هجرة الشمس» هذه الفجوة؟ رهان وتحدٍّ يجعلاننا فى انتظار هذا الفيلم أكثر مما ننتظر أى فيلم عربى آخر سيُعرض فى العام المقبل بالتأكيد.