الغيرية الدينية - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:42 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الغيرية الدينية

نشر فى : الخميس 12 فبراير 2015 - 8:15 ص | آخر تحديث : الخميس 12 فبراير 2015 - 8:15 ص

من المعروف أنه عندما تتأجج عاطفة الغيرة وتقحم نفسها فى علاقات الحب والمودة بين الأفراد فإنها تشوه تلك العلاقات وتقودها إلى جحيم الهيمنة والعنف، ومن ثم الجريمة. ومن يريد أن يعرف عن الجنون والقسوة والهذيان وغيرها من الانفعالات التى تنتج عن الغيرية فى حياة البشر فما عليه إلا أن يقرأ قصة عطيل الشهيرة للمبدع شكسبير.

فى أرض العرب، فى أيامنا التى نعيشها حاليا، تتأجج عاطفة الغيرية الدينية عند البعض بشكل لاعقلانى يقود أصحابها إلى العنف، فالإرهاب، فارتكاب الجرائم البربرية اللاإنسانية.

فكما يعيش غير الناضجين جحيم الغيرة باسم الحب يعيش المتزمتون والمتعصبون جحيم الغيرية باسم الدين. وكما يموت الحب فى الحالة الأولى يموت التسامح الدينى فى الحالة الثانية. قضية التسامح الدينى، عقيدة وفكرا وممارسة، أصبحت فى قمة أولويات هذه الأمة، وذلك بعد أن قادت غيرية اللاتسامح إلى تدمير الأوطان وتهجير الملايين، وقلبت أهَم مجتمعات الوطن العربى إلى مآتم بكائية حزينة يائسة يعشعش فيها الموت وتغيب عنها بهجة وآمال الحياة.

ولا يستطيع الإنسان أن يدرك أو يتفهم أو يتعاطف مع غيرية عنفية تمارس باسم دين يؤكد «ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة، كأنه ولى حميم»، وفى آية «لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى»، وفى آية «فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» وفى آية «إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين»، وفى آية «ولوشاء ربك لأمن من فى الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، وفى آيات أخرى كثيرة تصل إلى حوالى المائة آية.

•••

كيف توجد غيرية عنفية متزمتة غير متسامحة فى دين يقول نبيه (صلى الله عليه وسلم) عن نفسه «ولكن بعثنى معلما ميسرا»، ويقول أحد أهم أئمته، الإمام أبوحنيفة النعمان، «كلامنا هذا رأى، فمن كان عنده خير منه فليأت به».

نحن إذن أمام رذيلة اللاتسامح التى ينشرها البعض كلمات حق يراد بها باطل. هنا يجب التذكير بأن تجارب المجتمعات الأخرى أظهرت بأن حل مسألة اللاتسامح الدينى هو مدخل أساسى للانتقال إلى التسامح الثقافى، ومن ثم إلى التسامح القانونى، ومن بعدهما إلى بناء النظام الديمقراطى العادل.

إن المدخل الرئيسى إلى حل إشكالية الغيرية الدينية العنفية اللامتسامحة هو، كما كتب عنه الكثيرون، المراجعة الموضوعية العقلانية لما علق بالدين الإسلامى من قراءات خاطئة لبعض نصوصه الأصلية، سواء فى القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية المؤكدة.

من مثل هذه القراءات التى لها تأثير كبير مفجع على ما يجرى حاليا فى وطننا العربى قراءة البعض من الغيريين المتزمتين وأتباعهم التكفيريين لما يعرَفه البعض بآيات السيف التى يدَعون بأنها نسخت آيات التسامح واليسر فى القرآن الكريم. إن قراءتهم لا تأخذ أيَ اعتبار لسياق الآيات التاريخية التى عندما نزلت كانت تتعلق بالحروب التى شنها المشركون على الدعوة الإيمانية الوليدة.

إن هؤلاء لا يعون بأن عدم الحيطة فى قراءة تلك الآيات سيكون أفضل هدية تقدم لتكفيريين جهلة يجرون أمة الإسلام إلى حروب ابدية عبثية مع أتباع الديانات الأخرى ومع قوى إلحادية كبيرة تنتشر فى العالم بسبب طغيان الاستهلاكية المادية المريضة.

وينطبق الأمر نفسه على أهمية مراجعة مواضيع لا تسامحية من مثل تقسيم العــالم إلى «دار الإسلام» و«دار الحرب»، أو موضوع الجهاد المساء فهمه إلى حد السخف والعته، أو موضوع التزمت المريض بشأن حقوق المرأة حيث يغطى البعض على العادات والتقاليد العربية المتخلفة بشأن مكانة المرأة وكرامتها غطاء دينيا من خلال قراءات وتفاسير خاطئة. والأمثلة الأخرى كثيرة لا حصر لها.

•••

إن المنطق والتجارب البشرية تؤكد أن الغيرية الدينية العنفية اللامتسامحة تختفى، ويحل محلها التسامح الدينى، عندما يكون الأفق الدينى واسعا وليس مهيمنا عليه من قبل مرجعية ضيقة الأفق كما هو الحال فى بعض البلدان العربية والإسلامية.

إن اللاتسامح يتعايش وينمو مع انسداد الأفق السياسى، وذلك بغياب الديمقراطية التى فى ظلها توجد حرية الرأى والاختلاف والتجمع والاحتكام إلى القانون والمساواة فى المواطنة. عندها تتراجع اصوات وشعارات التكفير والتخوين والتهميش والاستئصال فى مجالات الدين والسياسة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى.

فى ظل الديمقراطية الحقة ستكون هناك إمكانية وجود قوانين عادلة يتساوى أمامها جميع المواطنين، ومناهج تربوية ترسخ الفكر المتسامح والضمير اليقظ، ووسائل إعلامية لا تمارس التحقير والازدراء والتخوين وتوزيع شهادات البراءة الكاذبة.

مطلوب كبح جماح الغيرية الدينية العنفية التى تؤدى بأصحابها إلى عدم رؤية النور الربانى المتسامح والإصرار على ممارسة الإنتهازية السياسية النفعية الحقيرة باسم غيرية مريضة كاذبة.

مفكر عربى من البحرين

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات