ــ 1 ــ
فى روايتها «جبل الزمرد» 2016 اشتبكت منصورة عز الدين مع نص «ألف ليلة وليلة» اشتباكًا يتجاوز العنوان، لتقدم عملًا يلعب مع «الليالى»، ويحاورها متبنيًا بعض أساليب السرد المستلهمة منها، عملًا يتفحص بحساسية علاقة الكتابى بالشفاهى، ويشتغل على فكرة «رواية الرواية» أى الوعى بفعل الكتابة، رواية منبثقة من قلب «ألف ليلة وليلة»، ومتماشية مع الموروث الدينى فى آن.
أما فى روايتها «بساتين البصرة» (دار الشروق 2021) فتنطلق منصورة من الحوار الحى الذكى والمتفاعل مع نص سردى عربى شديد الخصوبة والحيوية وهو نص «تفسير الأحلام الكبرى» لابن سيرين، لتنطلق منه منصورة فى مساجلة فكرية وجمالية مع بواكير الفكر والثقافة العربية والإسلامية، فى أواخر القرن الأول للهجرة ومطالع القرن الثانى للهجرة، وتساءل حركية وحيوية هذا الفكر الذى انطلق من مناقشة مسائل علم الكلام، والبحث عن توصيف «مرتكب الكبيرة»، و«المنزلة بين المنزلتين»، و«الوعد والوعيد» لنجد أنفسنا دون أن ندرى فى رحلة ممتعة تنطلق من الحاضر إلى الماضى، ومنه إيابًا مرة أخرى، وفى قلب حركة الجدل والفكر الساخن المنبثق من نشوء علم الكلام، وظهور فرقة المعتزلة على يد واصل بن عطاء تلميذ الإمام الحسن البصرى.
ــ 2 ــ
بين زمنين، وفضاءات مكانية متباعدة، نرتحل مع منصورة فى رحلة عجيبة بطلها «هشام خطاب» ينتمى إلى زمننا المعاصر، وهو شخص مأزوم بلا عمل رغم حصوله على شهادة فى تخصص الجيولوجيا، ويضطر إلى العمل بائعا للكتب القديمة التى ستكون بوابته للعبور من واقعه المرجعى المتعين إلى عالم آخر فى فضاء مكانى آخر تظهر شخوصه تباعًا، ونجد أنفسنا فجأة فى قلب البصرة القديمة؛ بصرة القرن الثانى الهجرى، بكل ما كانت تضج به من حراك فكرى وصخب سياسى وجدل دينى، ونجد أنفسنا وجها لوجه مع شخصية يزيد بن أبيه الخواص؛ صانع السلال والحصران؛ وبين الشخصيتين، ومعهما بصحبة شخصيات أخرى، تتماهى الحقيقة بالخيال والواقع بالحلم، والبحث عن الهوية المشوشة المضطربة الحائرة!
ولأن الذاكرة تشكِّل ركنا ركينا من مشروع منصورة الروائى والقصصي؛ تنسال الذكريات وتتداخل ونجد أنفسنا فى معترك فكرى ولغوى صاخب نشتبك فيه مباشرة مع أفكار وهموم كبرى تتعلق بعلاقتنا الملتبسة بالتراث وتتعلق بهويتنا التى ما زالت تخايلنا مكوناتها وعناصرها تتراقص كما ألسنة اللهب المجنونة المندلعة من أعماق بركان ثائر!
فى زمن يزيد بن أبيه وبحثه المحموم يستدعى نص منصورة شخصيات تراثية شهيرة؛ مثل الحسن البصرى إمام أهل السنة وواصل بن عطاء مؤسس تيار الاعتزال العقلانى فى التراث الإسلامى والعربى، وبينهما تموج تيارات المرجئة والقدرية وغيرهما من تيارات الفكر الإسلامى وفرق علم الكلام.
ــ 3 ــ
تبرع منصورة فى إيجاد مستويات من اللغة تتناسب مع شخصيات كل مرحلة زمنية وتكوين فكرى وثقافى ينتمى إلى حقبته؛ فتنوع سردها وحوارها بين لغة القرن الثانى الهجرى بجدله وحجاجه وتكويناته اللغوية المركبة، وبين لغة عصرنا المتحررة من أثقال الشكل التراثى وتداخل تراكيبه وصعوبة مفرداته، وتظهر ملامح لعامية سهلة لا تفارق الفصحى ولا تبعد على لغة الحياة اليومية المباشرة؛ لغة التواصل والاتصال اليومى المتجددة الحية.
وتتنقل منصورة ببراعتها المعهودة بين هذه المستويات اللغوية المتراكبة المتنوعة، فنلاحظ مثلًا فى لغة الشخصيات التى تنتمى إلى القرن الثانى الهجرى تلك اللغة المشبعة بتأثيرات نشأة العلوم وتدوينها وتقعيدها، وثمة أسلوب روائى فصيح ورصين يجرى على لسان بطل الرواية هشام خطاب، وتعبر عن تكوينه وثقافته. وهناك مستوى لغوى يستفيد من العامية، والأغنية الدارجة، والمثل الشعبى، ومفردات الثقافة الراهنة، كما جرت على لسان مرفت حبيبة البطل، على سبيل المثال.
ولم يكن ذلك سهلًا بطبيعة الحال، وكان يستدعى مطالعات وسياحات عميقة وواسعة فى نصوص تراثنا الإسلامى والعربى المتعلقة بتلك الفترة، وظهر أثر ذلك باقتدار فى امتلاك منصورة هذه القدرة على التنويع والانتقال بين هذه المستويات اللغوية المختلفة المتباينة والمتباعدة.
ــ 4 ــ
ينطوى نص «بساتين البصرة» على حكايات وحكايا تنتمى إلى عالمنا، وإلى عالم آخر هناك فى البعيد، هو منا ويتصل بنا حتى وإن تباعد عنا وفصلت بيننا وبينه قرون وقرون، إنه تحت الجلد يمارس نفوذه وهيمنته دون أن ندرى، لا تبحث منصورة عن حقيقة مجردة، ولا تطالب بأن يكون ثمة يقين، بل إن مغزى الرحلة كلها والانتقال بين هذه الشخوص والحكايات، فى زمننا وفى زمن واصل بن عطاء، يكمن بالأساس فى تكريس نسبية الحقيقة؛ ليس ثمة حقيقة واحدة كاملة لا سبيل للشك فيها أو ادعاء امتلاكها، رحلة معرفتنا وخوض البحث عنها كلها تقودنا إلى التسليم بأن لا حقيقة واحدة يمتلكها أحد أو يدعى امتلاكها أحد، ولا نجاة إلا بالتسليم بضرورة الاختلاف وتفاوت النظر وتعدد الآراء والتعايش مع وبين كل ذلك فى سماحة وقبول دون الانزلاق إلى فخاخ الانغلاق والتعصب وكراهية الآخر ومحاربته وممارسة الإقصاء والترهيب وصولا إلى القتل والتدمير.
إن قارئ هذا النص البديع، «بساتين البصرة»، لا يملك فى النهاية سوى الإعجاب حقيقة بقدرة منصورة السردية واللغوية وامتلاكها السيطرة التامة على نصها وبعد أن تتمه فصولا، تقوم بجرأة واثقة وواعية بحذف ما يقرب من 12 ألف كلمة منه! تكاد تشكل نصًّا موازيًا آخر!
لقد رسَت منصورة على شاطئ الإبداع الأصيل وهى تمتلك من النضج والاحتراف والتعامل بمهارة ووعى مع يجعلها تتحكم فى مسارات التشكيل السردى والجمالى لأفكارها وتيماتها التى تشغلها؛ الحلم والجنون والذاكرة والارتياب فى الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال.. إلخ، وأن تقدم أعمالًا ونصوصًا تحتل مكانها بين أفضل وأهم الأعمال السردية فى أدبنا العربى المعاصر.