(1)
«... وهذا الفريق من التافهين فى بواطنهم، اللا معين فى ظواهرهم، يعرفون كيف يموهون تفاهتهم.. يسألون الناس على الدوام، لكى لا تلجئهم الحال إلى الكلام، ويحسنون دفع الآخرين إلى الحركة كى لا يتحركوا هم. وقد رزقوا القدرة على تحريك كل شخص من الناحية التى يأنسون ضعفه فيها أو شهوته أو طمعه. وبهذا يتلاعبون بأناس هم فى الواقع أعظم منهم كفاية وأصدق موهبة، ويخيل إليهم غرورهم عندئذ أنهم صغار (أى هؤلاء ذوى الموهبة)، لما أفلحوا فيه من إنزالهم إلى مستواهم الرخيص».
(من رواية «امرأة فى الثلاثين» للروائى الفرنسى الشهير أونوريه دى بلزاك)
(2)
«لام شمسية» مسلسل استثنائى و«خطير» بكل ما تعنيه الكلمة؛ بل لا أبالغ لو قلت إنه من أخطر الأعمال الفنية التى عالجت موضوعًا شائكًا وحساسًا فى شرائح مجتمعية واسعة، منقسمة على ذاتها على كل المستويات؛ بين ظاهر ومستتر، معلن وسرى.. إنه ليس مجرد دراما اجتماعية نفسية عالية الجودة؛ محكمة التأليف والإخراج والتمثيل الذى يتبارى أبطاله جميعًا فى منافسة لم أرَ مثلها حقيقة بهذا الاحتراف والصدق والتمكن، منذ سنوات طويلة جدًا.
إننا هنا بصدد معالجة فنية راقية، حساسة وشديدة الذكاء والرهافة لواحد من ملفاتنا المسكوت عنها منذ عقود وعقود وعقود! ربما كانت المرة الأولى التى تتعرض فيها الدراما لهذا الملف الذى يبدو ظاهريا أنه يدور حول التحرش بالأطفال وإيذائهم بدنيًا ونفسيًا؛ لكن فى ظنى هذه مجرد عتبة للدخول إلى دهاليز وكواليس الانتهاك البدنى والنفسى والعصبى للأطفال والنساء عمومًا، وجريمة العسف والاستبداد وإخضاع الغير لنزوات مجرمة وحقيرة تكون مغلفة بالرقة والنعومة وأساليب السيطرة العنكبوتية التى يتفنن فيها المجرمون.
هذا ملف عالجته مئات البحوث والدراسات والمقالات التى تملأ أرفف مراكز البحوث الاجتماعية والجنائية والنفسية.. لكنها المرة الأولى فيما أظن- التى يعالج فيها دراميا بهذا الإحكام والإتقان والجودة.. كما أظن أنها المرة الأولى التى يحدث فيها مسلسل درامى كل هذه الأصداء الرائعة؛ ويثير من التفاعل الإيجابى والآثار المحمودة أكثر بكثير جدا مما كان يتصور البعض بأنه سيأتى بالعكس!
(3)
تفاعل الناس ومتابعتهم وتعبير كل مُشاهد أو مُشاهدة عن استجابته لهذه الحلقة أو تلك يؤكد أن المسلسل قد لامس العصب تمامًا! خصوصًا - ودون أى مبالغة - أن هذه القضية قد تفاقمت على مستويات عدة فى العقود الأخيرة، وساعد على رصد هذا التفاقم ما أظهرته وسائل السوشيال ميديا من حجم وخطورة هذه الجريمة والتجارب أكثر من أن تعد ولا يكاد توجد دائرة من الدوائر المجتمعية الصغيرة أو المتوسطة لم يمر فيه أحد أفراده -فى مرحلة الطفولة أو الصبا- بتجربة مريرة من تجارب التحرش سواء اللفظى أو غيرها ومن أدنى مستوى إلى أبشع مستوى!
لكن هناك الكثير من البارعين فى المداراة والتواطؤ والفصل التام بين الظاهر والمستتر والمعلن وغير المعلن!
نكأ المسلسل هذا الجرح النافذ بكل شجاعة وجمال ونعومة.. واخترق خيوطًا كثيفة متراكمة من خيوط العنكبوت «المعشش» فى أذهان ونفوس الكثيرين.
قالت الدراما كل ما تريد أن تقوله عن طريق الفن؛ سرد محكم وحوارات مصاغة بعناية شديدة، وتؤدى وظيفة الدراما كما حددها أرسطو قبل قرون، والحوارات بأكملها (من أول حلقة إلى آخر حلقة) حوارات مذهلة، تكشف كل عبارة منها عن جزء من الحدث، أو تبرز خيطًا يثير فضول المشاهدين، ويدفعهم دفعا لتتبعه ومعرفة إلى أين يقود.
تعبير واحدة مع كلمة أو اثنتين تخرج فى لحظة انفعال غير مسيطر عليه تكشف عن أزمة عميقة داخل هذه الشخصية أو تلك فتقودنا إلى جذور بعيدة غير مرئية فى حياتها أو تاريخها أو نشأتها.. إلخ. وكل شخصية مرسومة بالمسطرة؛ مستوى وعيها.. أزمتها الداخلية.. دورها فى الدفع بالأحداث إلى الذروة.
وكل ذلك فى إطار من الصورة والمونتاج والاستعانة بالموسيقى والأحلام يدير ذلك كله ويشرف على ذلك كله مخرج شاطر؛ طموح، واضح تمامًا أنه ليس موهوبًا فقط بل شغوفًا بالإخراج وتفاصيله ودقائقه ويعلم جيدا ممكنات هذا الدور (الإخراج الفنى) وآفاقه كى يصل إلى هذا المستوى الرفيع.
(4)
أخيرًا.. فإن من بين أهم أصداء هذا المسلسل هذه الحالة النشطة من السؤال والمراجعة وطلب الفهم والبحث عن التوعية والالتجاء للمتخصصين والمعالجين النفسيين المؤهلين لممارسة هذه الأدوار. النقاش المحتدم حول ضرورة المواجهة والتصدى لهذه الجرائم التى أحجمنا كثيرًا عن مواجهتها بشكل علنى وعلمى، وعلى نطاق مجتمعى واسع.
أخيرًا شاهدنا مسلسلًا فنيًا يشتبك مع قضايا وموضوعات فى صميم حياة الأسر والمجتمع، ومن دون إسفاف ولا ابتذال: التحرش، الاعتداء الجسدى، غياب الثقافة الجنسية، السلطة الأبوية (غالبا من يقوم على حراستها وتكريسها نساء؛ نموذج مديرة المدرسة أم وسام)، أهمية الطبيب أو المعالج النفسى المؤهل، الحوار، تحديد الاحتياجات والمبادلات الإنسانية والروحية والجسدية.. إلخ.
هذا مسلسل يستحق المشاهدة، والانخراط فى النقاش الدائر حوله، والانطلاق إلى آفاق أبعد فى النظر إلى هذه القضية المهمة والخطيرة.