(1)
فى العام الماضى كتبت مقالًا هنا فى الشروق بعنوان (لماذا أحببنا عائلة «كامل العدد»؟)، وذكرت فيه أن هذا العمل أحدث حالة غير مسبوقة من الإجماع على الشغف بهذه «العائلة»، وبان من خلال هذا الشغف والمتابعة التى حظى بها المسلسل هذا التعطش الكبير لأجواء العائلة الحانية الدافئة، وتجمعاتها المبهجة، ولـ«لمتها» الكبيرة، وللدعم الذى نتشوق إليه دائمًا ونبحث عنه دائمًا من الأهل والأقارب والأصدقاء.
ولعل جزءًا كبيرًا من تفاعل الجمهور مع الجزء الثالث، هذا العام، يعود إلى ذات الأسباب التى من أجلها أحببنا عائلة «كامل العدد» فى موسميه الأوليين.
إنها ذات الخلطة التى يبحث عنها المصريون الآن، ويفتقدونها بصورة كبيرة! روح العائلة كبيرة العدد «متنوعة» العناصر «متعددة» الطباع والأمزجة و«متباينة» المسارات والمشاوير، ورغم ذلك فكل فرد فيها يحب الآخر، يحترمه، ويقف بجانبه ويدعمه، ولا يتركه وحيدًا أبدًا مهما كانت الظروف والتحديات!
(2)
لقد أظهر التعلق الشديد بهذا المسلسل افتقادنا أو اشتياقنا لهذه الروح فعلًا؛ لأسباب كثيرة (ويمكن أن يفيدنا فى هذا علماء الاجتماع والنفس)، تفتت جزء كبير من حضور العائلة فى تكوينها البسيط الذى عرفه المصريون وعاشوه على مدى قرون وراء قرون!
وتعاظم هذا الإحساس فى السنوات التى تلت 2011 بالتحديد، خصوصًا مع ما أظهرته الوقائع والأحداث الجسام من هشاشة التكوين الثقافى والاجتماعى (أحد الآثار المدمرة لتسييد نمط من الانتماء على ما عداه).. شروخات عميقة وانكسارات حادة فى بنية عوائل وأسر بالآلاف على خلفية الصراع السياسى، و«تديينه»، ومحاولة الاستحواذ على السلطة بأى شكل وبأى ثمن.
وتعاظمت هذه التصدعات بعد 2013 بعد أن تفاصلت العائلات وتخارجت أسر بأكملها من روابط العائلة، وانقسمت انقساماتٍ خطيرة لم تعد معها أبدًا كما كانت فى السابق؛ واكتفت كل أسرة (أو كل فرد فيها حتى) بما عنده، وأقيمت جدران عالية من المفاصلة والعزلة والابتعاد والنأى، وتحوطها برك ومستنقعات تتفاوت مساحاتها بين الكراهية والرفض والفتور واللا مبالاة!
فى وسط هذه الأجواء القاتمة الكئيبة ظهر مسلسل "كامل العدد" بروحه المرحة الودودة التى تشيع البهجة والمحبة، وتنبذ الكراهية، وتقدم تجربة عملية مقبولة قابلة للتصديق على إمكانية التعايش تحت مظلة واحدة؛ مظلة العائلة الكبيرة (فيها الأجداد والجدات، وفيها الآباء والأمهات، وفيها الأبناء والبنات.. بل وتتسع "العائلة" لتقبل أصدقاء الجميع ترحب بهم، وتحنو عليهم وتضمهم إليها) من دون إكراهاتٍ ولا عصبيات ولا إدانات سابقة أو لاحقة، ترحب بالتنوع وتحتفى بالاختلاف ولا تحاول أن تفرض نموذجا قسريا يجب على الجميع اتباعه!
(3)
جاء الجزء الثالث ليعضد هذه الدعوة بدمج عناصر جديدة انضمت إلى العائلة؛ «يزبك» والد شريف وأمينة، و«شادية» الابنة الغائبة المغتربة لحياة وشقيقة أحمد، وابنة عم ليلى «مولى».
أتصور أن ظهور هذه الشخصيات، حتى وإن شابها بعض الضعف والقصور فى رسم ملامحها والتعمق فى تفاصيلها والعمل على دمجها بإحكام فى الكيان العام للعائلة، كان بمثابة التأكيد على مبدأ «القبول» والانضواء تحت مظلتها دون قيد أو شرط مع التنبه تماما إلى حق كل فرد لأخذ مساحاته الكافية للتخلص من مشاعره السلبية تجاه الآخرين، وتجاه التجارب السابقة..
ومثلما كانت الأجواء فى الجزأين الأوليين جاءت أحداث ووقائع بسيطة لكنها تنبض بالحياة والفكاهة والكوميديا اللطيفة، صحيح أن البعض قد يرى أن أفراد هذه العائلة تمثل شريحة قد تكون غير كبيرة فى حياة المصريين الذين يعانى أغلبهم من الضغوط الاقتصادية والحياتية بصورة غير مسبوقة فى السنوات الأخيرة، فهم يعيشون فى مستوى أعلى من المتوسط، وكلهم يمتهنون وظائف عالية ومن أصحاب الأعمال التى تدر دخلًا عاليًا، وتضمن مستوى من الرفاهة لا يتوفر لعموم المصريين «بالجملة من ذوى اليسر والرفاهة»، لكن الأهم من وجهة نظرى هو الاشتغال على القيمة الإنسانية التى لا يتنافس فيها فقير أو غنى، شريحة عليا أو وسطى أو دنيا، فمن الذى لا يحب «الجمال»، ولا يحب لمة العيلة وضمتها، وتضامنها فى الشدائد والأزمات.. إلخ.
(4)
هذه فى تقديرى خلطة كامل العدد السحرية (الفكرة، والقصة، والكتابة) التى منحت المسلسل حضورا وجماهيرية وجاذبية كبيرة، وتفاعل معه الكثيرون وتغاضوا عن بعض الهنات الفنية هنا أو هناك أو مشكلات هنا أو هناك.. لقد تغلبت روح العمل وصدقه على كثير من تفاصيله الفنية الدقيقة، وساعد على ذلك الحوارات الممتازة فى مشاهد كثيرة على ألسنة أبطاله (رنا أبوالريش ويسر طاهر فى تجربة تعاون رائعة وصادقة)؛ أجواء التلقائية والعفوية والدفء (شغل المخرج الرائع خالد الحلفاوى)، ثم الحضور الهائل والاستثنائى لكل أبطال العمل فردًا فردا كلهم بارعون كلهم رائعون.
لقد نجحوا تمامًا فى أن يشيعوا البهجة والمحبة والسعادة والتضامن وحب العائلة على مدى ثلاثة مواسم كاملة، وهذا وحده يجعلهم يستحقون كل هذه الإشادة وكل هذا التقدير.
تحية خالصة من القلب لصناع المسلسل، وفريق «كامل العدد» فردًا فردًا.
شكرًا جزيلًا على هذه القطعة الخالصة من الجمال والإنسانية.