ــ 1 ــ
قبل نحو الأسبوعين، وأثناء رحلة عودتى إلى مدينة أكتوبر، عقب انتهاء ندوة الصديقة العزيزة والمبدعة القديرة منصورة عز الدين التى شرفت بالمشاركة فيها، ومناقشة روايتها الجديدة «أطلس الخفاء»، الصادرة أخيرًا عن دار الشروق، استمتعتُ طوال الطريق (وتسليتى الوحيدة هى الراديو) بالاستماع إلى برنامجٍ إذاعى خاص (من كنوز وروائع إذاعتنا المصرية) عبر أثير البرنامج العام، عن الرائد القصصى والمسرحى محمد تيمور (1892ــ1921) الذى مات شابًا لم يكمل الثلاثين، لكنه ترك قصصا وأعمالًا مسرحية، فضلًا على تأليفه أول أوبريت ممصر: «العَشَرة الطيبة» التى لحنها العظيم سيد درويش، لتضعه هذه الأعمال فى مصاف رواد التأسيس والتأصيل للأنواع الأدبية الحديثة فى أدبنا المعاصر.
ــ 2 ــ
لفت انتباهى بشدة الحيوية التى كُتب بها هذا البرنامج (كتابة القدير محمد السيد عيد)، ومن بطولة الراحل القدير صلاح قابيل.. فى مساحةٍ زمنية لا تتجاوز الساعة إلا الربع، استعرض البرنامج عبر أداء درامى جميل وممتع سيرة «نجم» الأسرة التيمورية الذى انطفأ سريعًا، فهو أخو الأديب والقاص البارع محمود تيمور، وكلاهما ابنا العلامة أحمد تيمور باشا واضع معجم الأمثال العامية؛ وعمتهما هى الرائدة والشاعرة «عائشة التيمورية»؛ أسرة عريقة وأصيلة من الأسر التى اشتهِرت بتعاطى الفنون والآداب والثقافة الرفيعة، وكل فرد من أفراد هذه الأسرة اشتهر بالنبوغ والتميز والبراعة فى مجال من مجالات القول والكتابة والتأليف (يمكن لمن أراد المزيد من المعرفة والتفاصيل بهذه الأسرة العريقة وتاريخها وأثرها فى الأدب العربى الحديث الرجوع إلى كتاب «تاريخ الأسرة التيمورية»، وعن محمد تيمور بالأخص إلى كتاب عباس خضر «محمد تيمور حياته وأدبه»).
وقد كتب شيخ شعراء العامية فى مصر الراحل فؤاد حداد قصيدة كاملة فى هذه الأسرة، يصف فيها أحمد تيمور باشا والد كل من «محمد» و«محمود»:
الباشا أحمد كان لطيف المهابة
وكان مُجلَّل بالكمال والحزن!
وفى كلمة ألقاها طه حسين فى حفلة استقبال محمود تيمور عضوًا بالمجمع الملكى للغة العربية (مجمع اللغة العربية بالقاهرة الآن)، يقول فيها عن أخيه محمد تيمور:
«والجيل المصرى الحديث لا يستطيع أن ينسى فضل أخيك [يقصد محمد] على التمثيل، ممثِّلًا أولًا، وكاتبًا وممثلًا بعد ذلك، ثم كاتبًا يكرِّس من جهده للإنتاج للفن آخر الأمر، يكتب فى اللغة العربية الفصحى، ويكتب فى اللغة العربية العامِّيَّة، ولا يكاد يكتب، ولا يكاد الناس يسمعون بعض ما يكتب حتى يصل إلى قلوبهم كما يصل الفاتح إلى المدينة التى يقهرها فيستأثر بها الاستئثار كله».
ــ 3 ــ
ومحمد تيمور الذى تُوفى شابًّا سنة 1921، كان قد سافر بعد تخرجه من الحقوق إلى فرنسا، فعكف على دراسة التمثيل. وعاد يحاول النهوض به، فكان يكتب فيه وينقد ويمثل، وما لبث أن ألف ثلاث مسرحيات، وأوبرا ممصرة صدرت كلها فى مجلد واحد بعد وفاته.
أذكر أننى فى الجامعة قرأت مجلد الأعمال المسرحية لتيمور، الذى ضم مسرحياته الأربعة المؤلفة؛ وهى: «العصفور فى القفص» (مثِّلت لأول مرة فى مارس 1918)، و«عبدالستار أفندى»، وهى كوميديا مصرية أخلاقية مثَّلها عزيز عيد لأول مرة فى ديسمبر (1918)، و«الهاوية» وقد مثِّلت لأول مرة على مسرح الأزبكية، وهى أفضل مسرحياته، وتناولت انتشار الكوكايين، بالإضافة إلى أشهر أعماله وأذيعها صيتا وهى أوبرا «العَشَرة الطيبة»، وهى وحدها التى اقتبسها عن مسرحية فرنسية، غير أنه مصَّرها، وجعل حوادثها تجرى فى عصر المماليك، ونقد فيها بعنف تصرفات الطبقة التركية الحاكمة؛ وهى من أربعة فصول، وثلاثة مناظر، وقد وضع أزجالها بديع خيرى، ولحنها سيد درويش، ومثِّلت باشراف عزيز عيد مارس 1920.
ــ 4 ــ
وقد راعى محمد تيمور فى مسرحياته أصول الفن التمثيلى مراعاة دقيقة، غير أنه كتبها بالعامية. وقد أعجبنى فى نصوصه المسرحية والقصصية على السواء حسه المصرى «ابن البلد»، ونزعته الاجتماعية المحمومة، وانشغاله المبكر بقضايا العدالة الاجتماعية والتعليم والمساواة، والفروق بين الطبقات.
وكل من درس نشأة وتاريخ القصة القصيرة فى مصر توقف عند نصه المبكر «فى القطار» التى يعدها مؤرخو هذا الفن البداية الحقيقية لظهور فن القصة القصيرة فى الأدب العربى الحديث. ومن أشهر أعماله القصصية أيضًا مجموعة من الأقاصيص باسم «ما تراه العيون»، وهى أقاصيص قصيرة تمتاز بواقعيتها، وبما تحمل من إحساسٍ دقيق بالمفارقات، كما تمتاز بحبكتها القصصية المتقنة.
وقد كثر بعد الحرب الأولى، كما يرصد المرحوم الدكتور شوقى ضيف فى كتابه «الأدب العربى المعاصر فى مصر»، من يكتبون الأقصوصة كتابة فنية بارعة، يذكر منهم محمود تيمور، كما يذكر محمود لاشين فى مجموعتيه «سخرية الناي» و«يحكى أن»، وهو يمتاز بروحه المصرية الصميمة وقدرته على رسم الشخوص وإحاطتها بإطار من الواقعية والفكاهة.
ــ 5 ــ
وإلى جانب ذلك، كتب محمد تيمور ديوانًا من الشعر، ومجموعة من المقالات فى النقد المسرحى، وفى الاجتماع، ورواية طويلة لم يمهله العمر لإتمامها. كذلك ترجم محمد تيمور عن الفرنسية مسرحيتين: «الأب لوبونار» لجان إيكار، و«اللغز» لبول هِرفير، وكان كل ذلك الإنتاج ــ ما عدا المسرحيات والقصة الطويلة التى لم تتم ــ قد نشر من قبل فى جريدة «السفور».
وقد جمع شقيقه محمود هذا الإنتاج ونشره بعد وفاة صاحبه فى ثلاثة مجلدات كبيرة بعنوان «مؤلفات محمد تيمور» صدرت عام (1922).
أنا ممتن حقيقة للإذاعة المصرية العريقة، وكنوزها وروائعها التى لا تعد ولا تحصى، وعلى حفظها وتوثيقها لجزءٍ عزيز وغال من تراثنا الثقافى وتاريخنا الأدبى الحى المتجدد.