نحن نحب لأننا نختلط.. - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:41 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحن نحب لأننا نختلط..

نشر فى : الأربعاء 12 مايو 2010 - 10:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 12 مايو 2010 - 10:00 ص
فى عائلتى، كما فى عائلات أخرى، يوجد طفل بأخلاق وسلوكيات تختلف عن أخلاق وسلوكيات بقية أطفال العائلة، وتختلف عن أخلاق وسلوكيات كل من أبيه وأمه. هذا الطفل لم يختلط بأطفال آخرين إما لأنه لم يذهب بعد إلى روضة أطفال من بيئته، أو لم يختلط فى مكان آخر مع أطفال من بيئة غير بيئته التى نشأ فيها.

اجتهدت للبحث عن تفسير لهذه الحالة خاصة أن كثيرا من الأصدقاء يشكون من أطفال هذا حالهم. أنا نفسى ربيت أطفالا، كلهم جاءوا لا يعرفون من أمور الدنيا كثيرا أو قليلا. ورغم ذلك كان كل طفل منهم، ومنذ ولادته، يحب ويكره. يحب شخصا فى العائلة ولا يحب شخصا آخر، ويفضل اللعب مع طفل ويبتعد عن طفل آخر.

كم كانت تدهشنى شكوى أم من طفلها الذى لا يأكل اللحوم وإن وضعت فى غذائه «مهروسة»، ومازلت إلى يومنا هذا لا أعرف السبب الذى يجعل طفلا، بالكاد بدأ يحبو، يصرخ باكيا إن دخل إلى البيت غريب، أو يبتهج مبتسما ومهللا بذراعيه إن دخل آخر. وبعيدا عن المقارنة المباشرة، أعترف أننى بدأت مؤخرا جدا أراقب مسحورا تصرفات كلبين أليفين استقر بهما المقام منذ ولادتهما عند صديق فأحسن تربيتهما ولم يبخل عليهما بغذاء أو دواء وأبعدهما عن الكلاب سيئة السمعة فلم يختلطا بكلاب غريبة.

رأيتهما أول مرة فانبهرت بقوامهما: سيقان أطول من المعتاد وعظام وعضلات أضخم من المألوف عن مواصفات هذه العائلة من الكلاب. شقيقان متشابهان جسدا ومختلفان سلوكا. أحدهما يهز ذيله فرحا إن اقترب من الغرفة أحد الغرباء وينتفض متأهبا لدخوله ويقفز عليه مرحبا ومحتضنا، بينما شقيقه جالس فى مكانه يزمجر قبل أن يكشر عن أنيابه معربا عن عدم ارتياحه لمقدم هذا الغريب وربما كل الغرباء..

دفعتنى حيرتى أمام سلوكيات طفل مختلف جدا عن غيره من الأطفال وكلب مختلف عن شقيقه الذى نشأ معه إلى التأمل فى غرامنا الزائد بإصدار أحكام على الغير وميلنا الشديد لممارسة دور القاضى فى علاقاتنا مع الآخرين. أرى نفسى واحدا من عديدين، يتخذون مواقف يطلقون عليها أحيانا وجهات نظر وهى فى الحقيقة أحكام مطلقة وبعضها غير قابل للنقاش أو المراجعة.

قيل فى هذا إننا أسرى لعواطفنا وهو الأمر الذى يمكن أن يفسر السلوك المختلف لطفل عن باقى الأطفال. فالطفل الذى أحب أو تقزز من شخص يراه لأول مرة إنما فعل هذا لدوافع عاطفية وليست عقلانية. كان الفيلسوف دافيد هيوم أحد الذين تمسكوا بفكرة أن نظرتنا إلى الخير والشر تتشكل عبر عواطفنا قبل أن تمر بعقولنا.

هناك رأى آخر يرى أن مواقفنا تجاه الآخرين تتكون عبر التفكير والتدبير العقلانى. دليلهم أن مواقفنا وأحكامنا على بعضنا البعض تتغير مع الوقت. هى تتغير لأننا نتماهى مع الغير. نحن، ككائنات أخرى عديدة، نختلط، ومن الاختلاط أو بسببه تتسع دوائرنا الأخلاقية. خذ مثلا هذا المغترب المصرى وقارن منظومة أحكامه، وأقصد المعايير التى يحكم بها على غيره وقت بدء اغترابه، ومنظومة أحكامه بعد عودته من الاغتراب.

هنا يتضح لك على الفور الدور الذى يلعبه الاختلاط فى تشكيل مواقف الناس وأحكامهم على بقية البشر. ستجد مثلا شخصا سافر وعاد ولم تتغير معاييره فتفهم أنه لم يختلط. هذا المسافر فى مهمة أو الساعى إلى رزق أغلق بابه على نفسه وأعفى نفسه من مشقة الاشتباك مع ثقافة أخرى تغذيه ويغذيها. أو تجد شخصا عاد بمعايير من نوع المعايير التى سافرت معه وإن أشد رسوخا واقتناعا فتعرف أنه كان فى بلد ثقافته لا تختلف عن ثقافة بلده أو أنه لم يختلط إلا بأهل بلده من أمثاله المغتربين فلا أفاد ولا استفاد.

الثابت فى كل الأحوال هو أننا نؤثر بعمق أشد فيمن حولنا فى البيت أو المدرسة أو الوطن على اتساعه إذا نحن ترجمنا مواقفنا أو أحكامنا الأخلاقية إلى عواطف أثناء محاولتنا إقناع الآخرين باقتنائها. يجب ألا ننسى أن الإنسان باعتباره الكائن الحكائى الوحيد قادر دائما لو أحسن تدريبه على التأثير فى مواقف الآخرين الأخلاقية. نعرف مثلا كيف كان تأثير رواية كوخ العم توم التى نشرت لأول مرة فى عام 1852على أوضاع الرقيق ونعرف أيضا عن تأثير ثلاثية نجيب محفوظ وأيام طه حسين.

المسئولية كبيرة على الأهل والمعلمين الذين يكتشفون طفلا يتصرف مختلفا عن باقى الأطفال. حتى لو كان اختلافه منصبا على الامتناع عن أكل اللحوم بكل أنواعها، بعض المعلمين لا يهتمون وكأن الأمر لا يعنيهم وبعض الأهل يتباهى بهذا الطفل. يقول الأستاذ روبرت كولز من جامعة هارفارد والباحثان بول هاريس وكارين هوسار من كلية التربية بالجامعة نفسها إننا يجب أن نهتم اهتماما خاصا بالأطفال الذين يتصرفون تبعا لمعايير أخلاقية مختلفة عن معايير المحيطين بهم أهلا كانوا أم أقرانا.

يجب أيضا أن نهتم بالكبار الذين عادوا بعد اغتراب بمعايير شديدة الاختلاف والتخلف ويسعون لأن تصبح معاييرهم منظومة لأخلاق مصر فى المستقبل.




جميل مطر كاتب ومحلل سياسي