هل ما يزال الباحثون بحاجة إلى تعلم لغاتٍ أجنبية؟ - عماد عبداللطيف - بوابة الشروق
السبت 14 يونيو 2025 4:54 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

هل ما يزال الباحثون بحاجة إلى تعلم لغاتٍ أجنبية؟

نشر فى : الخميس 12 يونيو 2025 - 7:10 م | آخر تحديث : الخميس 12 يونيو 2025 - 7:10 م

منذ بداية عملى البحثى قبل حوالى ثلاثين عامًا آمنتُ بمُسَلَّمَة تعاملت معها على مدار هذه السنين على أنها حقيقة قاطعة، هى ضرورة امتلاك الباحث لغة أجنبية. كان أساتذتنا يستعملون تعبيرًا مشهورًا للإشارة إلى هذه المسلمة، هو أن الباحث لا يمكنه أن يسير بكفاءة إلا على قدَمين؛ الأولى معرفته بالمنجز العربى، والثانية معرفته باللغة الأجنبية الأهم فى مجال اختصاصه، لكى يتمكن من الاطلاع على المنجز المكتوب بها، الغربى خاصة. وفق هذا التعبير، يوصف الباحث الذى لا يجيد لغة أجنبية بأنه أعرج، لا يستطيع مجاراة من يسيرون على قدمين؛ أى يملكون القدرتين. وعادة ما كان السؤال الذى يطرحه المشرفون على طلابهم قبل تسجيل رسائلهم العلمية: هل تعرف لغة أجنبية؟ كان هذا هو الوضع منذ ثلاثين عامًا، وظل صحيحًا حتى سنوات قليلة ماضية. فقبل أقل من خمس سنوات كانت إجابة سؤال «هل يحتاج الباحثون لغة أجنبية؟»، هى: «نعم»، قاطعة، حاسمة، غير قابلة للنقاش. لكن تحولًا جذريًّا أخد يتشكل خلال السنوات الخمس الأخيرة يجعلنا نعيد طرح السؤال، ونراجع إجاباتنا القديمة له.
• • •
قبل أن أشرع فى شرح أسباب إعادة طرح السؤال، سأوضح أولًا أسباب التعامل مع ضرورة تعلم لغة أجنبية على أنه أمر بدهى، حتى وإن كان الباحث مختصًا –مثلى– فى دراسة اللغة العربية وآدابها. وهى أسباب تتلخص فى:
1. الفجوة المعرفية بين العالم العربى والغربى؛ فالقاعدة العامة أن الغرب خلال العصر الحديث يُنتِج المعرفة والعرب يستهلكونها مع غيرهم، ويجب على مستهلك المعرفة إتقان لغة إنتاجها. وقد صيغ هذا الأمر، وقُدِّم على أنه حقيقة بدهية، حتى فيما يتعلق بدراسات اللغة العربية وآدابها. وعلى الرغم من أن كثيرًا مما يقدم لنا على أنه بدهيات إنما هو تصورات صيغت بعناية لتبدو كذلك، وأننا نكتشف لاحقًا أيضًا أن بعضها جرت هندسته بدقة ليشكل تصورات لا تخدم مصالح أصحابها؛ فإن هذه المسلمة لم تتعرض للكثير من النقد أو التشكيك.
2. محدودية قدرة الترجمة على إتاحة المعرفة الراهنة خاصة فى التخصصات المعرفية الدقيقة، لأسباب كثيرة منها الفجوة بين زمن إنتاج المعرفة فى بيئتها الأصلية وزمن الترجمة. كانت هذه الفجوة فى بعض الأحيان كبيرة للغاية، إذ تأخرت ترجمة كتب أساسية لنصف قرن. علاوة على ذلك، فإن عدد الأعمال المترجمة ظل قليلا مقارنة بالإنتاج الأصلى، وذلك على الرغم من الازدهار الكمى فى الترجمات العربية منذ مطلع القرن الحادى والعشرين. وهو ازدهار قلل من أثره ضعف مستوى بعض الترجمات بسبب قصور فى فهم النص الأصلى أو مستوى التعبير أو عدم عناية دور النشر بالمراجعة اللغوية للكتب المترجمة وتنسيقها وتحريرها، حتى يبدو أحيانًا أن قراءة الترجمة أصعب كثيرًا جدًّا من قراءة النص فى لغته الأصلية.
3. حاجة الباحثين إلى التواصل مع المؤسسات والمجتمعات البحثية الأجنبية، سواء فى فعاليات مثل المؤتمرات والندوات، أو فى أشكال أخرى من التعاون مثل أن يكون الشخص طالب دراسات عليا، أو باحثًا زائرًا، أو لديه مشروعات تعاون بحثى مشترك.
4. أهمية الكتابة والنشر العلمى بلغات أجنبية، خاصة مع إدراكنا أن ما ينشر بلغتنا العربية قد يكون غير مرئى أو غير مؤثر فى التيار الأساسى للبحث فى الاختصاص. وبالتالى ازداد الاحتياج إلى امتلاك لغة أجنبية لكى يظهر المنجز المعرفى للباحث، ويُعترف به فى تيار العلم الذى ظلّ إلى وقت قريب يقرأ بلغات مهيمنة بعينها، ويقتبس ويستشهد بالبحوث المنشورة بها. وهذا أمر مأساوى نتج عنه أن بعض أهم الكتب التى كتبت بالعربية فى اختصاصات متعددة، لا سيما فى العلوم الإنسانية، لم يصبح جزءًا من تيار المعرفة كما يراه الغربى، ومن ثم تتجلى ضرورة امتلاك الباحث لغة أجنبية إن أراد أن ينشئ تواصلًا مع المؤسسات البحثية والمجتمعات البحثية الغربية، وأن يظهر إسهامه فيها.
5. أهمية الاحتكاك الثقافى والحضارى مع المجتمعات المنتِجة للمعرفة؛ فالباحث لا يتعلم فقط من خلال الكتب، وإنما يتعلم من خلال الاحتكاك المباشر مع المجتمع والبيئة المنتجة للمعرفة، وهذا أمر مفيد للغاية لا يمكن أن ينجز بمعزل عن امتلاك لغة أجنبية.
هذه العوامل مجتمعة جعلت من امتلاك الباحث لغة أجنبية رجلا أخرى يسير بها، وفى بعض الأحيان استغنى الباحثون عن الرجل الأولى التى تشير للمعرفة العميقة بالمنجز العربى فى مجال اختصاصه مكتفين بامتلاك لغة أجنبية أو أكثر والاطلاع على ما يُكتب بها!
• • •
كان هذا الوضع مستقرًا قبل سنوات قليلة ربما لا تزيد عن الخمس، فماذا جرى كى يتغير الحال على نحو جذرى، ويصبح ما كان يُدرك على أنه مسلمة فى الماضى القريب، خطأ أو مثير للجدل على أقل تقدير فى وقتنا الراهن؟ ما جرى هو ظهور تقنيات جديدة فى الترجمة والذكاء الاصطناعى تؤثر فى العالم بأسره، من شأنها تغيير الطريقة التى تُنتج بها المعرفة، وتُتداول على نحو جذرى، يمكن شرح أثرها كما يلى:
• التطور الهائل فى قدرات الترجمة الآلية
خلال العامين الماضيين تحسنت قدرات الترجمة الآلية على نحو مذهل، وجرى حل معظم المشكلات المرتبطة بالترجمة من العربية وإليها. وربما كان عصيًّا على التصور أو التخيل ما وصلت إليه كفاءة برمجيات الترجمة فى الوقت الراهن، فثمة طفرة حقيقية فى كفاءة هذه البرمجيات إلى حد أنه فى بعض الأحيان تعطى الترجمة الآلية نصًا مترجمًا أفضل من مترجم كُفء.
• صعود الذكاء الاصطناعى
يوفر الذكاء الاصطناعى كمًّا هائلًا من المعارف الراهنة المأخوذة من كم هائل من المصادر متنوعة اللغات، والمصوغة بعربية سليمة، وبأساليب متنوعة تتناسب مع قدرات القارئ وتفضيلاته. وهو ما يعنى أن اللغة لم تعد قيدًا يعوق الباحث المعاصر عن متابعة ما يُنشر من بحوث فى أى لغة يمكن للذكاء الاصطناعى معالجتها. وما نعيشه الآن لحظة تاريخية فارقة، يكاد فيها العالم ينقلب رأسًا على عقب بسبب قدرة الذكاء الاصطناعى على القيام بمهام تحاكى العقل البشرى. وقدرته على التفكير والإبداع.
• انتقال مراكز إنتاج المعرفة من الغرب إلى الشرق
لقد جرى تحول جذرى فى جغرافيا إنتاج المعرفة البشرية. فالنظر إلى عدد الأوراق البحثية وبراءات الاختراع التى أنتجت فى الصين تحديدًا مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية وحدها، أو مقارنة بالولايات المتحدة والعالم الغربى يكشف لنا عن تحول جذرى فى موازين إنتاج المعرفة، فإذا كانت الإنجليزية حتى الآن لغة العلم، فربما لن يستمر هذا الأمر كثيرًا. وعلى الرغم من أن كثيرًا من البحوث المنجزة فى الصين ودول شرق آسيا تُنشر بالإنجليزية، فإن قدرًا لا يُستهان به يُنشر بلغاتها الأصلية. ويتيح التطور التقنى الراهن الاطلاع على هذه البحوث بلغاتها الأصلية بفضل تطور الترجمة الآلية، والذكاء التوليدى.
• • •
الخلاصة أننا أمام وضع جديد فى عالم جديد؛ لم يعد الفرد فيه محتاجًا إلى لغة أخرى للاطلاع على أحدث ما أُنجز من معرفة فى أى بيئة علمية أخرى. فيمكن للباحث الآن أن يقرأ أى ورقة علمية فى مجال اختصاصه بأية لغة تدعمها أنظمة الترجمة الآلية بكفاءة فى بعض الأحيان لا تقل عن 90 بالمائة وربما تزيد. ويمكن لأى باحث أن يحصل على كتاب مكتوب باللغة الفنلندية أو اليابانية أو الهوسا ويضعه كاملًا فى موقع ترجمة مدفوع فيقدم نسخة Pdf من الكتاب مترجمة إلى العربية، وبمعرفة بسيطة بمصطلحات العلم، والمفاهيم الأساسية يمكن الحصول على المعارف والمعلومات المبتغاة. وبالتالى تراجعت ضرورة امتلاك الباحث لغة أجنبية بفضل التطور الهائل فى الترجمة الآلية وفى الذكاء الاصطناعى.
لقد أصبح باستطاعة الباحث المعنى بمتابعة الجديد فى حقل اختصاصه أن يحقق ذلك دون حاجة إلى إتقان لغة أجنبية، وهذا ما لم يكن يُتوقع حدوثه فى زمننا. وهو تحول جذرى يلفت الاهتمام إلى ضرورة إتقان اللغة الأم، التى يُمكن ترجمة المعرفة الراهنة إليها فى سرعة أشبه بلمح البصر. ومع ذلك يظل إتقان لغة أجنبية ضرورة للباحث الذى يسعى إلى بناء علاقات تواصل مع مؤسسات علمية غير عربية، أو إلى تجاوز المعرفة بما يُنشر فى الاختصاص إلى معايشة الثقافة والمجتمع.

عماد عبداللطيف أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب
التعليقات