فيسبادة - عماد عبداللطيف - بوابة الشروق
الجمعة 1 أغسطس 2025 7:22 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

فيسبادة

نشر فى : الخميس 31 يوليه 2025 - 7:45 م | آخر تحديث : الخميس 31 يوليه 2025 - 7:45 م

 

كلمة «فيسبادة» مكوَّنة من جزأين: الأول حروف «فيس»، وهى أول ثلاثة حروف من اسم برنامج التواصل الاجتماعى (فيسبوك)، والثانى حروف «بادة»، وهى آخر أربعة حروف من كلمة «الإبادة». ينتج عن دمج هذين الجزأين كلمة «فيسبادة»، التى قمتُ بنحتها للإشارة إلى الدور الذى يقوم به فيسبوك فى دعم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التى يرتكبها الاحتلال فى فلسطين. وأقترح فى هذا المقال أن يحل اسم «الفيسبادة» محل اسم «الفيسبوك» لدى متحدثى العربية، لتقديم إدانة رمزية للجرائم التى يرتكبها ضد الشعب الفلسطينى.

على نحوٍ مماثل، أقترح استعمال كلمة Faceocide بدلًا من Facebook فى اللغة الإنجليزية. وقد قمتُ بنحت الكلمة من كلمتى Facebook وGenocide، لتحقيق الهدف نفسه، وترسيخ استعمال التسمية الدالة على الوظيفة التى يقوم بها فيسبوك. كما أرجو أن يقترح المختصون فى اللسانيات السياسية تسميات أخرى تصف ما تقوم به وسائط تواصل اجتماعى أخرى، وصحف، وقنوات متلفزة تدعم الإبادة وتبررها.

يرجع اقتراح تغيير الاسم إلى ضرورة أن يكون الاسم دقيق الدلالة على المُسمَّى. ففيسبوك، على سبيل المثال، لم يعد وسيط تواصل اجتماعى، بل آلة حربية تُستعمل لإنجاز أغراض حربية مثل تقييد تدفق المعلومات، وتقييد حرية التعبير، ودعم سردية الاحتلال، وترويج رسائل داعمة له، وحجب أى نقد له، وإخفاء الواقع عن طريق حجب الصور التى تكشفه، وتشويه اللغة عن طريق إكراه مستعمليها على تحريفها لضمان وصول رسائلهم، وإمداد مجرمى الحرب بمعلومات عن مستعملى الموقع، وتسخير قاعدة بياناته فى خدمتهم، بما يُمكّنهم من إنجاز عمليات تجسس واسعة النطاق. وهذه جميعًا عمليات عسكرية داعمة للإبادة، تتطلب أدوات عسكرية، وأخطر ما فيها أنها لا تُدرك على أنها كذلك، بل تُموّه هويتها، وتُخفى وظائفها، وتُظهر نفسها على أنها مجرد «وسائط تواصل اجتماعى».

• • •

 تتعدد الأدوات الضرورية لإنجاز الإبادة الجماعية وجرائم الحرب الكبرى. أوضح هذه الأدوات هو الجندى المجرم الذى يُلقى القنابل ويُطلق الرصاص، وقائده المجرم الذى يصدر أوامر الإبادة، والسياسى المجرم الذى يتخذ القرار بارتكابها. لكن الإبادة تتطلب أيضًا مورّدَ أسلحة مجرمًا يُوفر العتاد العسكرى للقتلة، وعضوًا مجرمًا فى مجلس الأمن يحمى مرتكبيها من الإدانة، ويصوّت بالفيتو ضد قرارات وقفها، ولوبيات وشركات ومؤسسات مجرمة تُعاقب رافضى الإدانة وتُطاردهم، ووسيط تواصل مجرم يكرّس منصته للدفاع عن مجرمى الإبادة، وإسكات من يفضحها، أو ينتقدها، أو يقاومها، ووكلاء استعمار مجرمين يكرّسون مقدرات بلادهم لخدمة أعدائهم، وغيرهم كثيرون.

نحن نعيش فى عالم مقلوب على رأسه، يحظى فيه كبار السفاحين بالتكريم، ويُقتَل فيه الصحفيون الذين يُسجّلون جرائمهم. عالم أصبحت لغته السياسية أسوأ من كوميديا بائسة هزلية، يُوصَف فيها المدافع عن وطنه وأهله وعِرضه بأنه «إرهابى»، ويُوصَف الجيش الأكثر إجرامًا فى تاريخ البشرية بأنه «الجيش الأكثر أخلاقية». نحن نعيش زمن الأكاذيب الفجّة، التى تكتسب قوة هائلة لأن من يروّجها يمتلك البندقية، والبنوك، والبورصات، ووسائل الإعلام، والساسة فى معظم البلدان التى يُوهِموننا بأنها «حرّة مستقلة». وبسبب هذه السيطرة الخبيثة، يضربون عرض الحائط بالقوانين الدولية، والقيم الإنسانية، والاتفاقات والمعاهدات، دون محاسبة أو عقاب.

فى زمنٍ فقدت فيه الكلمات دلالتها، لا تملك الشعوب المغلوبة على أمرها فى أرجاء العالم إلا تسمية الأشياء بأسمائها، إن استطاعت إلى ذلك سبيلًا. العالم الذى نعيشه يغرق فى طوفان الأكاذيب، والتقارير المزيفة، والادعاءات الكاذبة. وتهيمن على سوق كلماته وصوره عصابة من أكثر خبراء التلاعب والتضليل افتقادًا للمهنية والإنسانية معًا. وإزاء الهيمنة الخفية التى يمسك بخيوطها أخبث البشر وأكثرهم شرًّا، لعل بعض الكلمات الصادقة الأمينة تصف ما يجرى أمام أعيننا.

• • •

لقد أصبح التلاعب بعقول البشر أخطر صناعة فى زمننا الراهن. وتزداد مخاطره بسبب التطور التقنى الخارق الذى نعيشه. فقد أصبح بإمكان الذكاء الاصطناعى إنشاء عالم مزيف موازٍ لا يمكن كشف زيفه أو التمييز بينه وبين العالم الحقيقى. ومعظم أدوات الذكاء الاصطناعى تملكها شركات تتحالف مع المجرمين؛ لأنهم يملكون معظم أسهمها، أو يديرونها. ومن الضرورى أن نُدرك أن البرامج التى تُنتجها هذه الشركات لا تُقدّم معرفة نزيهة أو بريئة، فهى أداة من أدوات الهيمنة والاستعمار. ويمكن للقارئ الكريم أن يُجرّب مثلًا طرح أسئلة تخص فلسطين على برنامج الذكاء الاصطناعى الذى طوّرته جوجل (Gemini)، وسيكتشف أن هذا البرنامج مبرمج للدفاع عن الاحتلال، إلى حدٍّ يجعله جديرًا بأن يُسمّى «جمنيبادة»، على غرار «فيسبادة». وليس هذا إلا مثالًا بسيطًا على واقع شامل شديد الرداءة.

وليس ببعيد عن ذلك القنوات الإخبارية الدولية، والمذيعون، ومقدمو البرامج الذين يدعمون الإبادة، فهؤلاء أيضًا يستحقون تسميات نزيهة، تليق بما يقومون به من تلاعب وتزييف. ومن المؤسف أن بعض القنوات العربية، وبعض مقدمى البرامج العرب، ينطبق عليهم وصف داعمى الإبادة، ويستحقون تسميات تليق بأفعالهم.

• • •

 نحن نعيش عصر احتكار وسائط التواصل الاجتماعى. قد يكون من غير اليسير مقاطعة منتجات معينة بسبب السيطرة التى تفرضها قوى استعمارية على سوق تقنيات التواصل والتطبيقات الحيوية، مثل فيسبوك وإنستجرام ومايكروسوفت وغيرها. هذه التقنيات والوسائط تستأثر بحيّز يومى من حياة البشر المعاصرين، لذا من الضرورى على الأقل تسمية الأشياء باسمها الحقيقى.

أعلم أن التسميات المقترحة قد لا يُكتب لها الرواج، لكن مجرد تداولها، ولو على نطاق ضيق، ضرورى لإدانة جرائم تُحوّل وسائط التواصل وتقنياته من وسائل للتواصل والمعرفة إلى آليات عسكرية تُنجز جرائم حرب. من الضرورى تخليد هذه الجرائم، وإطلاق التسميات الأمينة على مرتكبيها.

عماد عبداللطيف أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب
التعليقات