أتيحت لي مشاهدة المسلسل اللبناني"٢٠-٢٠" بطولة نادين نجيم وقصّي خولي وفريق كبير من الممثلين المتميزين، عن قصة لبلال شحات ونادين جابر ومن إخراج فيليب أسمر. المسلسل عُرض في شهر رمضان الماضي ولم تُتح لي فرصة مشاهدته في حينه، وعندما فعلتُ كانت قد وصلتني ردود أفعال إيجابية جدًا عن مستواه الفني. لفتت نظري في المسلسل نقطة ربما لم يتطرق لها مَن ناقشوه، وهي النقطة الخاصة بالمنظومة القيمية لحارة لبنانية، فالحارة هي مسرح أحداث المسلسل بشكل أساس، مع تنقّل الكاميرا بين مواقع أخرى للتصوير من وقت لآخر. والسؤال الذي قفز إلى ذهني بعد مشاهدة المسلسل هو: إلى أى مدى توجد القيم التي حكمت علاقات أبطال العمل على أرض الواقع؟ نعلم أن تغيرًا كبيرًا أو بالأحرى تشوهًا لحق بمنظومة القيم في منطقتنا العربية على مدار العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، صحيح أن الطبقة الوسطى كانت هي صاحبة النصيب الأوفر من التغيير بل هي نفسها انكمشت وتفرق أبناؤها ما بين الصعود للطبقة الأعلى والنزول إلى الطبقة الأدنى، لكن الطبقة الفقيرة التي تناولها مسلسل (٢٠-٢٠) لم تنجُ بدورها من التغيير، فالحارة اللبنانية تشبه الحارة المصرية، والاثنتان في ظني لم تعودا كما كانتا من قبل، فإلى أي مدى يصدق هذا الحكي؟
•••
بدايةً فإن منظومة القيم التي تضمنها المسلسل شملت: الشهامة أو الجدعنة، والوفاء، والصدق، والفضيلة. فلقد كان الريس صافي الذي لعب دوره بتقمص تام الفنان السوري قصّي خولي رمزًا مجسدًا للشهامة، كانت فيه بعض ملامح الفتوة في أدب نجيب محفوظ الذي كان يجعل لكل حارة فتوتّها، لكن صافي فتوة "آدمي" يسبغ حمايته على أهل الحارة جميعًا دون مقابل، فهل هذا يعني وجود فارق بين الفتوة والبلطجي الأول طيب والثاني شرير؟ يحتاج الموضوع لتجاوز التشابه في المعنى بين المصطلحين إلى مقارنة السلوك على "الميلتين"، ويحتاج إلى تجاوز منطق الأبيض والأسود. فهذا الصافي الذي يغيث الملهوف ويدافع عن الضعيف هو من أسرة يوجد بها أكثر من فرد يشتغل بتجارة المخدرات، وهو يفعل نفس الشيء لكنه يبرر ذلك بأمرين التورط من جهة والتصدق بعائد تجارة المخدرات على المحتاجين من جهة أخرى. شهامة صافي أوقعته في الفخ الذي نصبته له النقيب سما أو الممثلة المتميزة نادين نجيم عندما لاذت بالحارة وتخفّت في شخصية امرأة تُدعى حياة، استضافها صافي وتصدى لأخيها الذي يبتزها ثم في مرحلة لاحقة اختلطت عنده الشهامة بالحب فوقف "حدّها" وأنقذ حياتها حتى بعد انكشاف أمرها. وفيما يخص قيمة الوفاء فلا نكاد نجد شخصية من شخصيات المسلسل لم تتعرض لاختبار الوفاء ونجحت فيه، بدءًا من أعوان صافي أمثال بلبل وسعاد وهرم وحتى رسمية أو القديرة كارمن لَبَس. وعندما خانت الأمانة نورا أرملة أحد مساعدي صافي بعد أن هددها الأمن فإنها لم تغفر لنفسها خيانتها فـ"ضبّت اغراضها" وغادرت الحارة. كانت قيمة الصدق حاضرة أيضًا بقوة في سلوك أهل الحارة، وسمعنا من أكثر من شخصية عبارة "تكذّب عليّ" ووصف "كذّاب وكذّابة وممثل وممثلة" مقترنَين باستنكار شديد. أما الفضيلة فلها في المسلسل وجوه عديدة جوهرها رفض كل ما يمّس الشرف، فعندما يحاول سلطان اللحّام الاعتداء على نورا يقاطعه أهل الحارة ويبصقون عليه ويضعون على محل جزارته لافتة "محل الكلب سلطان"، لكن هذه اللافتة سوف تعبر الشارع فيما بعد وتستقر فوق محل الخُضر الذي يتخذ منه صافي واجهة لإخفاء تجارته في المخدرات، فلقد اكتشف أهل الحارة طبيعة صافي الذي طالما تصّدق عليهم من المال الحرام.
•••
حمَلت هذه المجموعة من القيم التي تضمّنها المسلسل اللبناني إلى بعض الصديقات اللبنانيات وسألت: هل مازالت هذه القيم بخير؟. ردت إحداهن "الجدعنة لسه موجودة. أكيد مش زي زمان، بس موجودة وتلاقي الناس والشباب في الحارات ممكن يخدموكي بعيونهم عند اللزوم". واستشهَدَت على ذلك بأنه حتى في المناطق التي تشهد نزاعات طائفية عنيفة كما هو الحال في جبل محسن وباب التبّانة (سنة/علويون) "تلاقيهم قايمين قاعدين سوا وبيحششوا سوا وبيدافعوا عن بعض… بس لما حد يرمي فتيشة- أي يثير العصب الطائفي- بيصيروا يتبادلوا إطلاق النيران والقنابل والصواريخ". لكن كما هو واضح تكمن في مضمون العبارة السابقة بعض مظاهر التغير في قيم الحارة، فما أظهره المسلسل من رفض الحارة فكرة الإتجار بالمخدرات يصطدم بتزايد اتساع تعاطي الشباب للمخدرات لأسباب مختلفة، وهذا يصدق على لبنان وغير لبنان، فنساء الطبقة الدنيا كثيرًا ما يخرجن للعمل لأن أزواجهن يعتمدون عليهن جزئيا وربما حتى كليًا في تمويل الكيف. جانب آخر من التغير أصاب قيمة الشرف، وهنا تقول صديقتي "من فترة طلع حد فتح أكاونت على إنستجرام فضح بالاسم علاقات جنسية لحوالي ٦٠ امرأة ورجل منهم متزوچين ومتزوچات في ضيعة من طبيعة محافظة.. الكل خاف وافتكر إنو حتصير مچازر من وراها وطلاق وحمام دم .. لكن ما كأنو شي صار".
•••
صديقة أخرى أمنّت إجمالًا على أن قيم الحارة "بعدا موچودة" لكنها أخذت النقاش لمنطقة أخرى تتعلق بنمط توزيع القيم على الطوائف في مسلسل "٢٠-٢٠". انتقدَت من جانبها "فكرة استخدام الحجاب والإسلام، والتركيز على إنه أشخاص من هايدي المنطقة المسلمة هِن اللي بيعملوا تجارة المخدرات والفساد والأذية والمشاكل في حين إنه چوزيف هو رئيس دار العچزة وچبران هو الضابط اللي بيحمي البلد.. ماعندي أي مشكل يكون چبران أو چوزيف هو اللي بيدافع لكن كان فيهم يحطوا المسلمين عم يخربوا ومسلمين بقلب الچيش ومسلمين بدار العچزة والعكس. نحنا في المچتمع اللبناني ما تعودنا في الدراما اللبنانية يكون فيه كشف عن الهويات الدينية". الملاحظة السابقة لفتت انتباهي لما لم ألحظه بحكم اختلاف السياق الاجتماعي، ولا انتبهتُ إلى أن اللهجة المستخدمة في الحارة تخص أهل الچنوب وهم بالأساس من أبناء الطائفة الشيعية، فلكل سياق قراءته. لكن عمومًا كانت هناك ضابطة محجبة تعمل مع العميد جبران، وكانت السيدة ضحى أم الريس صافي محجبة وكانت شديدة الورع وترفض تجارة المخدرات، أي أن توزيع القيم على الطوائف لم يكن جامدًا.
•••
وهكذا فلقد كتب كثيرون عن القيمة الفنية الرفيعة لمسلسل "٢٠-٢٠" وهو كذلك بالفعل، لكن ها هو النقاش ينقلنا لمساحات جديدة، على المستوى الاجتماعي، بعضها قد يكون محل خلاف .