نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة «قوه شياو يينغ» ــ مُدرِّسة اللّغة العربيّة فى جامعة يانغتشو بالصين ــ حول مجالات بناء القوة الناعمة الصينية فى العالم العربى، والتحديات التى تواجه ذلك البناء والحلول المقترحة لزيادة توغل قوة الصين الناعمة فى عالمنا العربى. بداية ذكرت الكاتبة أن عالِم السياسة الأمريكيّ جوزيف ناى هو الذى صاغ مفهوم «القوّة النَّاعمة»، مقابل مفهوم القوّة الصَّلْبة. ويعرِّف ناى القوّة الناعمة بأنّها «القدرة على تحقيق الأهداف المنشودة عن طريق الجاذبيّة أو السحر أو الإقناع بدل الإرغام أو الإغراء بالأموال». ومَوارِد القوّة الناعمة لأيّ بلد هى ثقافته وقيمه السياسيّة، فضلا عن السياسة الخارجيّة. فيما يشير العالِم الصينيّ الشهير Men Honghua إلى أنّ القوّة الناعمة الصينيّة تتكوّن من الثقافة والمفاهيم والنموذج التنمويّ والأنظمة الدوليّة والصورة الدوليّة، وتعتبر الثقافة والمفاهيم والنموذج التنمويّ «القوّة الداخليّة» للقوّة الناعمة، فيما تعتبر الصورة الدوليّة «القوّة الخارجيّة» للقوّة الناعمة، حيث تربطهما الأنظمة الدّولية التى تصبح قناة رئيسة لعرض القوّة الناعمة الصينيّة وبنائها.
أشار الرئيس الصينيّ السابق «هو جينتاو» إلى أنّ بناء القوّة الناعمة الصينية هو من الاستراتيجية الوطنية للصين، وذلك فى تقريره المقدّم إلى المؤتمر الوطنى السابع عشر للحزب الشيوعى الصينى فى العام 2007. وقد كُثِّفت أعمال بناء القوّة الناعمة الصينية فى عهد الرئيس «شى جينبينغ»، حيث أعلن فى العام 2014 أنّه «يجب علينا زيادة القوّة الناعمة للصين، وطرح سردية صينية جيّدة، ورسائل تواصل أفضل إلى العالَم». وتحت حُكم «شي»، رمت الصين العالَم بسَيل من المبادرات الجديدة: «الحلم الصينى»، و«الحزام والطريق»، وغيرها الكثير. وتتجسّد القوّة الناعمة الصينية فى العالَم العربيّ فى المجالات التالية:
1) الاستثمارات الصينية المُباشرة فى الخارج، حيث تتمتّع الاستثمارات الصينية المباشرة فى الخارج بالجاذبية، وبخاصّة بالنسبة إلى الدول النامية، وذلك بسبب عدم ارتباطها بشروط حقوق الإنسان أو نشر الديمقراطية وما إلى ذلك؛ إذ إنّ الشرط الوحيد هو الاعتراف بتايوان كجزء لا يتجزّأ من الصين الأمّ، وعدم إقامة أيّ علاقات دبلوماسية رسمية مع تايوان. وقد بلغ حجم تدفّقات الاستثمارات الصينية المباشرة غير المالية فى الدول العربية فى العام 2016 نحو1.15 مليار دولار.
2) المساعدات الخارجيّة الصينيّة؛ إذ إنّ ما يميّز المساعدات الصينية بمختلف أشكالها خلوّها من الاشتراطات والتدخّلات السياسية التى تحفل بها عادةً المساعدات من الدول الغربية المانِحة. كما تلتزم الصين دوما بعدد من المبادئ فى تقديم المساعدات الخارجية، ومنها الاحترام المُتبادل، والمساواة والالتزام بالعهود، والمنفعة المُتبادَلة، وقاعدة رابح ــ رابح. وتشمل أساليب المساعدات الخارجية الصينية مشروعات إعادة الإعمار، وتوفير اللّوازم العامّة، والتعاون التقنى والتعاون فى تطوير الموارد البشرية، وإيفاد فرق طبّية والمتطوعين لتقديم المساعدة الإنسانية الطارئة، وتخفيف عبء الديون، وما إلى ذلك. على سبيل المثال، تمّ بناء مركز المؤتمرات فى القاهرة، وميناء الصداقة فى موريتانيا، وجسر الصداقة الصينية اليمنية فى صنعاء. وقد أرسلت الصين أكثر من 2000 من أفراد الخدمات الطبّية إلى اليمن خلال 40 سنة الماضية لتنفيذ المشروعات الصحّية والطبّية. وقدّمت الصين مساعدات نزيهة قيمتها 50 مليون يوان صينيّ إلى فلسطين فى العام 2016، كما قدّمت الصين مساعدات إنسانية جديدة إلى الشعوب السورية والأردنية واللّبنانية واللّيبية واليمنية بقيمة 230 مليون يوان صينيّ.
***
3) معاهد كونفوشيوس؛ حيث تشكِّل هذه المعاهد الصينية جزءا أساسيّا آخر من الجهود الرامية إلى بناء القوّة الناعمة التعليمية للصين. فحتّى نهاية العام 2016، تمّ إنشاء 512 معهدا و1073 فصلا فى 140 دولة (منطقة) فى العالَم، أى أنّ معاهد كونفوشيوس أنشأت موطئ قدم للصين فى جميع أنحاء العالَم، بما فى ذلك 11 معهدا وفصلان فى 8 دول عربية تتوزّع كالآتى: بالنسبة إلى معاهد كونفوشيوس: لبنان (1)، الأردن (2)، الإمارت العربية المتّحدة (2)، البحرين(1)، مصر(2)، السودان (1)، المغرب(2)؛ هذا فضلا عن فصل كونفوشيوس: مصر(1)، تونس(1).
إنّ عدد معاهد كونفوشيوس فى العالَم العربى قليل نسبيّا، وذلك يشير إلى أنّ الحماسة لتعلّم اللّغة الصينية والثقافة الصينية فى الدول العربية ليست عالية، وإلى أنّ جاذبية الثقافة الصينية للعرب لا تزال محدودة.
4) صناعة الإعلام؛ حيث تشكّل هذه الصناعة جزءا مهمّا من الصناعة الثقافية، وتشمل الكِتاب، والأفلام، والتليفزيون والإذاعة ووسائل الإعلام الأخرى. الكِتاب هو حامل مهمّ لنشر الثقافة، يُمكنه نشر الأفكار والقيَم. وتدفع حكومة الصين بنشاط عمليّة ترجمة الكُتب ونشْرها، وتمّ توقيع سلسلة من الاتّفاقيات بين الجانبَين الصينى والعربى لترجمة الكُتب ونشرها: مشروع الترجمة «حضارة واحدة» بين مؤسّسة الفكر العربى والمجموعة الصينية للنشر الدولى الذى أطلق فى كانون الأوّل (ديسمبر) 2009، و«مشروع الترجمة المُتبادَلة لأمّهات الكُتب الصينية والعربية» فى أيّار (مايو) 2010، و«مركز تبادُل الترجمة وحقوق النشر بين الصين والدول العربية» فى العام 2016. وتهدف هذه المشروعات إلى ترجمة أهمّ المؤلّفات والكُتب الصينية فى مجالات الفكر والتنمية والتعليم والتكنولوجيا، وتجربة الصين الناجحة فى مجالات أخرى. وفى ما يتعلّق بالأعمال السينمائية والتليفزيونية، تدخل هذه الأعمال إلى الدول العربية عبر ثلاث طرائق: عبر المشاركة فى المهرجانات السينمائية الدولية المُقامة فى الدول العربية وعرضها فى مهرجانات الثقافة الصينية هناك، وبثّها فى القناة العربية التابعة لتليفزيون الصين المركزى. وقد دخلت وسائل الإعلام الصينية الرئيسة إلى الدول العربية أيضا، ومن ذلك على سبيل المثال، قناة العربية الدولية التابعة لتليفزيون الصين المركزى التى تبثّ على مدار 24 ساعة يوميّا، وتغطّى منطقة الشرق الأوسط بأكمله من خلال ثلاثة أقمار صناعية، والقسم العربى فى إذاعة الصين الدولية الذى تُبثّ برامجه العربية سبع ساعات يوميّا، فضلا عن «وكالة أنباء شينخوا» التى أنشأَت فرعها الرئيس فى منطقة الشرق الأوسط فى القاهرة، وأنشأت القسم العربى فى العام 2011 لتعزيز نفوذ الصين فى الإخبار المتعلّق بالدول العربية.
فضلا عن ذلك، هناك منصّات أخرى مثل «منتدى التعاون الصينى العربى» الذى يعقد كلّ سنتَين منذ العام 2004، و«ندوة العلاقات الصينية العربية والحوار بين الحضارتَين الصينية والعربية» التى تُعقد كلّ سنتين منذ العام 2005، و«مؤتمر الصداقة الصينية العربية» الذى يُقام كلّ سنتَين منذ العام 2006، و«معرض الصين والدول العربية» الذى يُعقد سنويّا منذ العام 2010. وتلعب هذه المنصّات دَورا مهمّا فى رفع القوّة الناعمة الصينية فى العالَم العربى أيضا.
***
تضيف الكاتبة بأنه وعلى الرّغم من أنّ الصين اهتمّت فى السنوات الأخيرة ببناء القوّة الناعمة، واتَّخذت بعض الإجراءات، إلّا أنّها، وبالنظر إلى جميع قواها الاقتصادية والعسكرية، تعانى من نقصٍ حادّ فى القوّة الناعمة. وهناك بعض المشكلات التى تُواجه الصين فى بناء القوّة الناعمة الصينية فى العالَم العربى، تتمثّل أولى هذه المشكلات بعدم التوازن بين القوّة الصلبة والقوّة الناعمة؛ بحيث لم تحوَّل القوّة الاقتصادية والعسكرية الصينية إلى عناصر القوّة الناعمة، وتتخلّف القوّة الناعمة الصينية فى الدول العربية عن الولايات الأمريكية حتّى أنّها أضعف من اليابان وكوريا الجنوبية. أمّا ثانى هذه المشكلات، فتتمثّل بالفجوة بين العرض والطلب على المنتجات الثقافية؛ إذ تهتمّ الحكومة الصينية بنشر الثقافة التقليدية فى الدول العربية، وتولى الأولويّة لترجمة الكُتب الكلاسيكية الصينية القديمة. لكنّ العرب فى الواقع يهتمّون بالمنجزات الصينية المرموقة المحقَّقة منذ سياسة الإصلاح والانفتاح. وتتمثّل ثالث هذه المشكلات باعتماد الصين على القنوات الرسمية لتعزيز القوّة الناعمة، وافتقارها إلى المنظّمات غير الحكومية؛ إذ تعتمد الصين بشكل رئيس على القنوات الحكومية الصينية فى الدول العربية، ذلك لأنّها تتّسم بكونها ذات «حكومة قويّة ومجتمع ضعيف»، فيما تلعب الدولة دَور التخطيط والقيادة، وتقوم بتنفيذ المشروعات فى المدى القصير من «فوق إلى تحت». أمّا الشركات والقوى الاجتماعية ومنظّمات المجتمع المدنى وغيرها من المؤسّسات، فقد فشلت فى أداء دَورها فى تأييد بناء القوّة الناعمة الصينية فى الدول العربية ودعمها.
حيال المشكلات التى تواجه الصين فى بناء القوّة الناعمة الصينية فى العالَم العربى، تطرح الكاتبة بعض المقترحات، منها: ضرورة تعميق المعرفة بالقوّة الناعمة، وتعزيز مفهوم النموّ التنسيقى للقوَّتين الصلبة والناعمة؛ كما ينبغى مواصلة تحرير الأفكار للتغلّب على التحيّز الإيديولوجيّ، وعدم إهمال أيّ عنصر من عناصر القوّة الناعمة. كما يجب الإسراع فى إصلاح النظام الثقافى وابتكار الآليّة الثقافية، ناهيك بضرورة الدفع نحو تطوير الصناعة الثقافية لتصبح كبيرة وقويّة. صحيح أنّ بناء القوّة الناعمة فى الدول العربية يحتاج إلى دفع الحكومة وتخطيطها، ولكنّه يحتاج أيضا إلى جهود المنظّمات غير الحكومية من أجل تنمية الصناعة الثقافية ذات المنافسة الدولية لتشكِّل بالتالى نفوذا ثقافيّا قويّا.
ختاما تذكر الكاتبة؛ يجب علينا كصينيّين ألّا نفكر بما نملك من موارد ثقافية فحسب، بل يجب أن ندرس الاحتياجات الثقافية والعادات الجمالية للجماهير المتلقّية أيضا. ولمّا كانت الدول العربية تهتمّ بالثقافة الصينية المُعاصرة والمنجزات الاقتصادية والتجربة التنمويّة للصين، فإنّه يترتّب عن ذلك ضرورة إيلاء الاهتمام إلى نشر الثقافة الصينية المُعاصرة فى البلدان العربيّة وترويج الأعمال التى تعكس الملامح الروحية الصينية المعاصرة وتحقيق التوازن بين العرض والطلب.
أمّا الدعاية الخارجية فينبغى أن تركّز على النقطتَين التاليتَين: الأولى، نقل مفهوم «الصين المُحبّة للسلام» إلى العالَم، من خلال الثقافة الصينية والسياسة الخارجية السِّلمية؛ الثانية، إظهار حيويّة الصين وملامحها الجديدة، ولاسيّما التغيّرات الاجتماعية التى حدثت فيها فى السنوات الأخيرة، والمنجزات المرموقة التى تحقَّقت فى عمليّة التحديث، والأفكار الجديدة التى ظهرت فى الصين. فمن خلال التقارير الإخبارية الإيجابية عن التغيّرات التى حصلت فى الصين وفى السياسات الدولية، يُمكن تعزيز فهم الشعوب العربية للصين، وإظهار الصورة الجديدة للصين.
النص الأصلي