فلسفة التنمية فى مصر.. بين اللحاق بالأكثر تقدمًا والاستجابة لتوافق وطنى - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:38 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فلسفة التنمية فى مصر.. بين اللحاق بالأكثر تقدمًا والاستجابة لتوافق وطنى

نشر فى : الأحد 12 سبتمبر 2021 - 7:15 م | آخر تحديث : الأحد 12 سبتمبر 2021 - 7:15 م

لا يكاد يمر يوم دون أن تنقل إلينا أدوات الإعلام أنباء افتتاح الرئيس لمشروعات جديدة، أو تفقده لمشروعات يجرى تنفيذها، أو شروع الحكومة فى تنفيذ مبادرات اقترحها الرئيس فى مجالات متعددة، كما ناقش رئيس الوزراء مع فريق من الخبراء منذ أسابيع سيناريوهات مقترحة للاقتصاد المصرى فى الأعوام القادمة، ومع ذلك يحتار الخبراء والمواطنون والمواطنات على حد سواء عندما يتساءلون: ما هو الهدف من كل هذا النشاط؟ طبعا هم يفترضون أن كل هذه الجهود تستهدف أن تكون مصر فى وضع أفضل، ولكن صورة هذا الوضع ليست واضحة تماما. عندما بدأت الصين بقيادة الحزب الشيوعى الصينى تجربتها الإنمائية فى أواخر أربعينيات القرن الماضى عرف الشعب الصينى أن الهدف هو بناء مجتمع اشتراكى، ثم فى ظل أحداث الخطوة الكبرى إلى الأمام ثم الثورة الثقافية التى تلتها بسنوات صار الهدف هو الوصول إلى المجتمع الشيوعى، وعندما بدأ دينج هشياو بينج مرحلة الإصلاح أصبح الهدف هو إنجاز التحديثات الأربع فى العلم والتكنولوجيا والصناعة والزراعة والدفاع، وبعد أن تحققت هذه الأهداف أصبح جهد الدولة الصينية فى ظل الرئيس شى لينج شين هو إقامة مجتمع اشتراكى ذى خصائص صينية. وكان هدف جهود التنمية فى مصر فى ستينيات القرن الماضى هو بلوغ مجتمع اشتراكى على أساس تحالف قوى الشعب العامل من فلاحين وعمال ومثقفين ثوريين ورأسمالية وطنية وجنود. طبعا هذه كلها أهداف بالغة العمومية، ولكنها تفيد المواطنين والمواطنات فى معرفة المحطة النهائية التى سيصل إليها قطار التنمية، فيتحمسون للمشاركة فى هذه الجهود إذا كانت هذه الغايات تجد لديهم صدى إيجابيا، ويقبلون التضحيات المطلوبة منهم باعتبارها الثمن الضرورى لنيل ثمار التنمية، لهم أو للأجيال القادمة بعدهم.

من المشروع إذن أن نتساءل ما هى الغاية الكبرى التى ترمى إليها كل هذه الجهود والمشروعات والمبادرات، وخصوصا أن ثمارها مؤجلة. مازالت هناك أعداد كبيرة من المواطنين والمواطنات، يمثلون قرابة ثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر، ويعانى آخرون شظف العيش مع ارتفاعات متتالية فى رسوم الكهرباء والمياه والوقود واستخراج رخص السيارات وحتى مصروفات المدارس الحكومية التى يفترض أن تكون بالمجان. فمع هذه التضحيات، هل هناك هدف سام يبرر قبولها؟ طبعا أصبح يتكرر الحديث فى الآونة الأخيرة عن جمهورية جديدة، أو دولة جديدة كصدى لما أعلنه الرئيس بأن الانتقال إلى عاصمة إدارية جديدة يعنى ولادة جمهورية جديدة فى مصر. وانبرت الأقلام وتعالت الأصوات تتحدث عن هذه «الجمهورية الجديدة» والتى تذكرنا شاشات التلفزيون الحكومى بها، ولكن ما طرحه الذين تجاوبوا مع ما أعلنه الرئيس هو اجتهاداتهم الشخصية، أو فلنقل أنها قائمة رغباتهم، وهى على كل حال مجرد تمنيات من جانبهم، وليس هناك ما يقطع بأن ذلك هو ما يقصده الرئيس.
وقد يتساءل البعض أين نجد فلسفة التنمية هذه؟ أين مصادرنا فى التعرف عليها. الرئيس، وهو عقل عملية الحكم فى مصر بما فى ذلك سياسات التنمية أو السياسات الاقتصادية بل وكل السياسات العامة التى له فى كل منها «توجيهات» كما يفيدنا الإعلام، لم يطرح برنامجا، بل لم يطرح عليه أحد الصحفيين الذين يجتهدون فى تفسير سياساته سؤالا حول هذا الموضوع. يمكن طبعا لمن لا يحبون جمال عبدالناصر أن يجدوا مصدرا يعرفون منه أفكاره، سواء فى كتاب فلسفة الثورة أو فى الميثاق الوطنى ١٩٦٢، أو فى خطاباته العديدة ومقابلاته الصحفية، وقد اجتهدت الدكتورة هدى جمال عبدالناصر وأنشأت موقعا حافلا على شبكة الإنترنت لكل ما كتبه أو صرح به أو تحدث للمواطنين والمواطنات عنه. كما توجد وثائق أساسية تشرح على الأقل بعض ما كان يسعى أنور السادات لتحقيقه على أرض مصر ومخالفا لما كان يرجوه سلفه. أين نجد مصدرا سهلا لأفكار الرئيس عبدالفتاح السيسى حول مستقبل مصر؟ قد يحتج البعض قائلين أن مستقبل مصر لا تحدده فقط رؤية رئيس الدولة. قد يكونون على حق، ولكن فى مثل نظامنا السياسى تقتصر مهمة المحيطين بالرئيس فى الحكومة ومجلسى البرلمان والإعلام على توضيح وشرح ما يريده الرئيس حسب فهمهم، ولكنهم لا يضيفون لما يتصورون أنه يريده أفكارا جديدة.

غايات التنمية تكشف عنها إنجازاتها على أرض الواقع
هل من الضرورى أن تكون هناك مصادر مكتوبة أو مسموعة أو مشاهدة نعرف منها فلسفة التنمية فى أى دولة؟ أليس الأفضل أن نستشف هذه الفلسفة من الإنجازات أو العثرات على أرض الواقع، فلا قيمة لهذه الفلسفة إن لم يكن لها صدى فى حياة المواطنين والمواطنات وأنشطة المجتمع، وإلا تصبح حبرا على ورق.
لحسن الحظ هناك من أقوال الرئيس وتوجيهاته وطبيعة المشروعات التى جرى تنفيذها أو الشروع فيها ما يوضح بعض أبعاد هذه الفلسفة. ويمكن القول أن فلسفات التنمية تتوزع حول محورين أولهما يسعى للحاق بالدول الأكثر تقدما، وهى فى الوقت الحاضر المجتمعات الغربية، وثانيهما يدور حول تحسن أوضاع المواطنين والمواطنات وفقا لما يرتضونه عموما نابعا من ثقافتهم الوطنية وتاريخهم. نموذج التنمية الموصوف بالغربى ينتمى إلى المحور الأول، ونموذج التنمية الصينى ينتمى إلى المحور الثانى. النموذج الأول أسر عقول النخبة الثقافية المصرية على امتداد تاريخ مصر الحديث، وإن تفاوتت جوانب هذا النموذج الذى أعجبت به أشد الإعجاب. الليبراليون انجذبوا لما يعد به هذا النموذج من حريات سياسية وفكرية واقتصادية، واليساريون أعجبوا بالصورة الاشتراكية لهذا النموذج، وقد اشترك الفريقان فى الإعجاب بما ينطوى عليه هذا النموذج من إعلاء قيمة العلم والتكنولوجيا ووليدتهما الصناعة. إنجاز التنمية فى مصر فى الوقت الحاضر يعكس ميلا لهذا النموذج الغربى ولكن فقط فى شقه التكنولوجى. الرئيس يشدد على ضرورة الالتزام فى مشروعات التنمية بأعلى معايير التكنولوجيا المتقدمة. وإنجازات التنمية فى مصر هى استنساخ لتطبيقات التكنولوجيا الغربية فى مجالات الطرق والمواصلات والمدن الجديدة. شبكة الطرق الجديدة فى مصر تحاكى نمط شبكة الطرق فيما بين المدن فى الولايات المتحدة من حيث العرض الهائل للطريق وتعدد حاراته، وهو مناسب جدا للولايات المتحدة بمساحتها الواسعة وانتشار الخضرة فيها وسخاء الطبيعة عليها من حيث توافر الأراضى الزراعية، ومن ثم لا يلقى امتداد هذه الشبكة أعباء على الاقتصاد وإن كان يجد أحيانا اعتراضات من جانب أنصار الحفاظ على البيئة. أما عندنا فتقتطع بعض هذه الطرق خصوصا فى الدلتا مساحات لا بأس بها من أراض زراعية خصبة أو يجد كثيرون من المواطنين والمواطنات ضيقا بها عندما يجرى شق هذه الطرق الواسعة والسريعة داخل الأحياء السكنية.

كما نجد استنساخا لهذا النموذج الغربى وأمريكى تحديدا فى بناء المدن الجديدة سواء فى ذلك العاصمتين الإدارية والصيفية بناطحات السحاب أو الأبراج العالية فى كل منهما، والتى يقال إن أحدها، وهو البرج الأيقونى فى العاصمة الإدارية سوف يكون الأعلى فى إفريقيا. تكاد هذه الأبراج العالية فى العاصمة الإدارية خصوصا تذكر بجزيرة مانهاتن فى نيويورك التى ابتكرت هذا النمط من المبانى بسبب ضيق مساحتها وكثافتها السكانية الهائلة، على عكس الوضع فى كل من العاصمتين الجديدتين. ونجد استنساخا آخر لهذا النموذج الأمريكى تحديدا فى منتجعات النخبة التى هى أقرب لنموذج المدن المسورة التى كانت تجتذب أسر الطبقة الوسطى فى الولايات المتحدة منذ ستينيات القرن الماضى، هربا من المدن الكبرى وسكانها من الطبقة العاملة أو الفقراء ذوى الأصول الإفريقية، وهو نمط تخلت عنه نفس هذه الطبقة الوسطى التى لم تستطع أن تقاوم سحر المدن الكبيرة بحياتها الثقافية الثرية وتنوع خدماتها، ومن ثم عادت أسر هذه الطبقة للمدن الكبيرة وطردت منها المواطنات والمواطنين الفقراء من خلال حيلة رفع الإيجار من جانب الشركات العقارية، وهو ما شهد عليه الكاتب فى كل من واشنطن ونيويورك.
ولكن الإعجاب بهذا النموذج الأمريكى، الذى اجتذب أيضا دول الخليج، قاصر فى نموذج التنمية المصرى فى الوقت الحاضر على البعدين التكنولوجى والاستهلاكى. لا يمتد الإعجاب به إلى نمط الحريات الذى يوفره للمواطنين والمواطنات، سواء الحريات الفكرية أو السياسية أو المدنية، ولا حتى بالشق العلمى والصناعى الذى كان مثار إعجاب الجناح اليسارى فى النخبة الثقافية المصرية.

اختلافات أخرى عن النموذج الغربى
كما يختلف التطبيق المصرى للنموذج الغربى فى الوقت الحاضر عن النموذج الغربى الأصلى فى بعد آخر، وهو القوى الدافعة لهذا النموذج. الطبقات الرأسمالية كانت هى القوة الدافعة للنموذج الغربى. هى التى أقامت المدن ووفرت لحكوماتها من خلال ضرائبها التمويل الكافى لمد المرافق الأساسية، بل وهى التى أقامت هذه المرافق فى حالة الولايات المتحدة الأمريكية. ومن خلال هذه الضرائب تم توفير الخدمات الأساسية من تعليم ورعاية صحية وسكن ملائم وإعانات بطالة وعجز للطبقة العاملة فى الدول الأوروبية. ولذلك كان هذا النموذج يعول على الادخارات والاستثمارات المحلية لتمويل التنمية عموما وهو ما اضطلعت به هذه الطبقات. أما فى حالة مصر فقد جرت تنحية كل من القطاعين المدنيين العام والخاص إلى حد ما، وتولت مؤسسات القوات المسلحة قيادة عملية التنمية. ومع انخفاض معدل الادخار فى مصر، لم يعد هناك بديل آخر سوى التعويل على التنافس مع القطاع الخاص فى الحصول على التمويل من البنوك الوطنية، وكذلك التمويل الخارجى لعملية التنمية سواء فى صورة قروض أو استثمارات أجنبية مباشرة أو غير مباشرة. وهو ما يؤدى إلى ارتفاع حجم المديونية الداخلية والخارجية إلى حدود تسبب قلقا لدى خبراء الاقتصاد.
هذه هى بعض أبعاد فلسفة التنمية فى مصر والتى يمكن أن يستشفها الباحث من خلال ممارساتها، والقليل مما يصرح به الرئيس فى توجيهاته للحكومة أو خطاباته.

 

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات