لا تزال الصحافة الاقتصادية فى العالم مهمومة بمسألة ما أراها تشغل حيزها المناسب فى مصر؟! فالبنك الدولى ظل لفترة طويلة يدرس تغيير عتبة الفقر المدقع extreme poverty threshold وبعد سجال طويل فى وسائل الإعلام وتكهنات حول قرار البنك الدولى تم بالفعل رفع عتبة الفقر المدقع من 1.25 دولار إلى 1.9 دولارا فى اليوم، أى بنحو 50% دفعة واحدة، وهى الزيادة الأكبر لخط الفقر المدقع منذ عام 1990 حين وضع البنك الدولى قاعدة الدولار/يوم، وقد تم الإعلان عن هذا التغيير بتاريخ 4 أكتوبر 2015 بناء على بيانات تعادل القدرة الشرائية لعام 2011.
•••
فى تقدير البنك الدولى قبل التعديل المذكور يعد الإنسان معدما إذا ما كانت قدرته على الإنفاق فى اليوم الواحد لا تتجاوز ما قيمته 1.25 دولارا، ووفقا لهذا التقدير يقع حاليا تحت خط الفقر المدقع نحو 836 مليون إنسانا حول العالم، وبعدما أقدم البنك الدولى على رفع خط الفقر إلى مستوى 1.9 دولار/يوم فإن ما يقرب من 148 مليونا من البشر قد انضموا إلى المعدمين ليبلغ إجمالى عددهم نحو 984 مليونا. يأتى هذا فى معرض إعلان البنك الدولى عن نجاح برامجه فى تخفيض نسبة الفقراء المعدمين حول العالم خلال الفترة من عام 1990 إلى عام 2011 من 36% إلى 15% حيث بلغ عدد الفقراء المعدمين ما يقرب من 1.1 مليار إنسان عام 2011 نزولا من 1.92 مليارا عام 1990، فضلا عن استمرار هذا التراجع فى عدد الفقراء لما دون المليار فى الوقت الحاضر كما سبقت الإشارة. كذلك يأتى قرار تعديل خط الفقر ودخول عدد كبير من الفقراء تحت الخط الجديد فى سياق تحد أطلقه البنك الدولى لتخفيض عدد الفقراء بنهاية عام 2016 بمقدار 100 مليون فقير، وهو ما يقل عن الداخلين فى عداد الفقراء بمجرد رفع خط الفقر، بما يجعل صافى التغير فى إجمالى عدد الفقراء للعام القادم موجبا. مع ذلك يعتقد مسئولو البنك الدولى أنه بحلول عام 2030 ستصل نسبة الفقراء دون خط الفقر المدقع إلى أقل من 10% من إجمالى سكان الأرض.
فى مصر يقع تحت خط الفقر 26.3% من السكان وفقا لتقرير الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء الذى نشره على موقعه بداية العام الحالى. وقد اعتمد الجهاز فى تقديره لخط الفقر على مفهوم خط الفقر الأدنى الذى يبلغ عنده نصيب الفرد من الدخل السنوى 3920 جنيها (تقريبا 1.4 دولارا فى اليوم)، بينما خط الفقر الأعلى يبلغ عنده إجمالى دخل الفرد سنويا 5066 جنيها (تقريبا 1.8 دولارا فى اليوم). فإذا ما كان البنك الدولى يعد مرجعا معتبرا لتقدير خط الفقر بالنسبة للأجهزة المصرية، فإن رفع خط الفقر المدقع عالميا بنسبة 50% يجب أن ينعكس على التقديرات المحلية، كما أن قيمة عتبة الفقر المدقع الجديدة (1.9 دولار) تزيد عن خط الفقر الأعلى المحدد حاليا فى مصر، وبالتالى فالتقدير الرسمى ــالمتفائلــ لخط الفقر الأعلى ربما يعكس بدرجة أكبر نسبة الفقراء المعدمين القابعين فى غياهب الفقر المدقع.
•••
فى دراسة أجراها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار ومركز العقد الاجتماعى التابعين لمجلس الوزراء المصرى عام 2014 بلغت نسبة الفقراء فى مصر 80% من السكان وفقا لأهداف الألفية التى حددتها الأمم المتحدة! هذه النسبة المخيفة تقرع أجراس الخطر، إذ يمثّل الفقر بيئة خصبة للتطرف والإرهاب، وتضيع فى المجتمعات شديدة الفقر كثير من القيم والمبادئ التى ترقى بها الشعوب، ناهيك عن انتشار الأمراض والأوبئة وتراجع الإنتاجية وزيادة الاعتماد على المعونات الخارجية التى لابد لها من نفاد.
وبعيدا عن الإحصاءات العالمية والمحلية وعن المنهجيات المختلفة التى ارتكز عليها تحديد خط الفقر هنا وهناك، فهل يمكن اعتبار إنسان لا يستطيع أن ينفق 14 جنيها يوميا على مختلف أوجه معيشته فقيرا مستورا غير معدم؟! وكيف السبيل إلى ذلك فى غيبة تأمين صحى لائق وتعليم مناسب تكفلهما الدولة، ناهيك عن الشراب والغذاء والكساء والمأوى الذين يضعون بالكاد أساسا لهرم الحاجات الأساسية للبشر كما وضعها «ماسلو»، فضلا عن وسائل مواصلات آمنة وآدمية؟!.
استحوذ مفهوم التنمية المستدامة وأهدافها حتى عام 2030 على اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة، وأصبح القضاء على الفقر من أهم أهداف التنمية الشاملة المستدامة، وإذا كان الرئيس السيسى قد التقى رئيس البنك الدولى على هامش الزيارة الرئاسية الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية، وتناول معه صور مشاركة البنك الدولى فى تمويل مشروعات التنمية فى مصر، ومنها مشروع استصلاح المليون ونصف مليون فدان، ومحاربة الفقر فى قرى الصعيد الأكثر فقرا على مستوى العالم، فأعتقد أن الحوار قد تطرّق بالتأكيد إلى سبل تحقيق نمو شامل متوازن وتحسين توزيع الثروة فى مصر فى ظل ارتفاع متوقع فى إحصاءات نسب الفقر كنتيجة حتمية لتحريك خط الفقر العالمى.
•••
أرى أن المشروع القومى الحقيقى لمصر يجب أن يكون محاربة الفقر، علما بأن الثالوث القاتل (الفقر والجهل والمرض) مازال هو العدو الأول للشعب المصرى على مدى عقود من الزمن، لكن الخروج بالمعدمين من دائرة الفاقة والعوز إلى حد الكفاف (على أقل تقدير) يظل ضرورة عاجلة ينبغى على المجتمع كله المسارعة إلى تلبيتها قبل أن تنفجر مصر بتبعات خطيرة، لذا فحرى بمنظمات المجتمع المدنى وسائر المؤسسات سواء الهادفة أو غير الهادفة للربح أن تخصص للمسئولية الاجتماعية نصيبا يتفق وحجم الأزمة الكبرى التى تعيشها البلاد تحت وطأة الفقر.
خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل