فى عام 1911 نظم الأقباط مؤتمرا فى أسيوط بعنوان «المؤتمر القبطى الأول» رفعوا خلاله عددا من المطالب وينظر نفر من المؤرخين إلى هذا الحدث باعتباره بداية حقيقية لخروج حالة الاحتقان الطائفى إلى العلن للمرة الأولى فى تاريخنا الحديث. وقد رد المسلمون على هذا المؤتمر بعقد المؤتمر المصرى الأول فى مدينة القاهرة فى العام نفسه، وعلى الرغم من حالة التربص المتبادلة التى يمكن أن نستشعرها من عقد المؤتمرين إلا أن خلو عنوان المؤتمر الثانى من أى إشارة إلى الإسلام هو أمر ملفت، كما أن المؤتمر الأول يحمل عنوانا يتسع ليشمل قبط مصر من مختلف الديانات، وإن كان الأقباط المسيحيون هم من دعوا إليه وقاموا بتنظيمه بشكل حصرى.
وبعد مرور أكثر من قرن على المؤتمر القبطى الأول، لم يغير مرور السنوات شيئا من طبيعة المطالب التى رفعها الأقباط المسيحيون آنذاك (وذلك طبعا باستثناء مطلب اعتبار يوم الأحد عطلة رسمية) بل على العكس، فقد لعب الزمن دورا سلبيا فى تطور الأزمة، بعد سيطرة جماعة الفاشية الدينية على الحكم فى أعقاب ثورة يناير، وهو أمر يخزى كل مصرى تاق إلى التحرر من ربقة الحكم المستبد الفاشى، وأراد أن ينعم بدولة تسودها قيم المواطنة وتحكمها أسس العدل والمساواة.
أكتب هذا المقال فى أعقاب حادث المنيا الطائفى الإرهابى المقيت، مستحضرا لقطة يجب ألا ننساها وقعت يومى 12و 13 إبريل 2013 عندما عقد فى بون فى ألمانيا مؤتمر نظمه اتحاد المنظمات القبطية فى أوروبا، وكان الدافع الأهم لهذا المؤتمر هو إدانة اعتداء طائفى إرهابى آخر استهدف الكاتدرائية القبطية فى العباسية، لدى تشييع جنازة عدد من إخواننا المسيحيين الذين قضوا فى مشاجرة طائفية الطابع فى مدينة الخصوص!
الأزمة إذن قديمة متجددة، تشتعل خطورة لدى انبعاثها بدعم من النظام الحاكم أو دائرة الحكم أو بتحريض منهما، كما كانت الحال فى عام حكم الإخوان المسلمين لمصر، ومؤتمرات الفتنة وخطاباتها الرسمية شاهدة على ذلك. ذلك لأن شعور مسيحيى مصر، وهم بحق نسيج الأمة، يزداد مرارة وعزلة، وتنبعث الحاجة إلى البحث عن حلول بعيدا عن أصحاب الحل والعقد داخل البلاد. نحمد الله أن تلك الفترة لم تطل.
***
فى عام 2012/2013 كان النظام الحاكم فى مصر هو المتهم الأول باضطهاد الأقباط والتحريض عليهم أو فى القليل تبنى سياسة دعوية وإعلامية تحض على كراهيتهم ودفعهم إلى الهجرة خارج البلاد! بل وتعزز الاحتقان الطائفى ضدهم بشكل غير مسبوق. بعض النخب المسيحية فى مصر فطنت إلى أن حالة الرفض للآخر والتحريض ضده ربما لا تستهدف المسيحيين بشكل خاص، لكنها تستهدف قبط مصر على اختلاف عقائدهم طالما أنهم لا ينتمون إلى فصيل سياسى أو أيديولوجى بعينه. كذلك فعل الدكتور كمال زاخر المفكر المصرى الأصيل الذى ينتمى إلى الكنيسة القبطية دينا، وينتمى إلى الأزهر الشريف ثقافة ونشأة، حتى أنه يشهد بأن إتقانه للغة العربية جاء على يد شيخ أزهرى كان يقوم لسانه بالقرآن، وكذلك مازال حكماء الأمة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم يفطنون إلى حقارة مسلك الإرهابيين فى بث الخوف والفرقة فى المجتمعات الآمنة المستقرة.
الأقباط المسيحيون فى مؤتمرهم الأول شعروا بالتمييز السلبى فى المجتمع لدى اختيار شاغلى الوظائف العمومية والمستحقين للرتب العسكرية، وفى المؤتمر الأخير يشعرون بالإقصاء والاضطهاد والاستهداف الذى يمس أرواحهم وسلامتهم الشخصية، ليس فقط أموالهم ومكانتهم الاجتماعية. أى تدهور أصاب المجتمع المصرى حتى سمحنا بتلك المشاعر السلبية تتسلل إلى قلوب المصريين؟ سؤال مازلت أطرحه لمن نسوا المنعطف الخطير الذى كدنا أن نجر إليه جرا فى فترة هيمنة الإخوان على الحكم.
وإذ لم يسلم المؤتمر القبطى الأول من انتقادات وهجوم استهدف منظمه الأبرز المحامى الصعيدى «أخنوخ فانوس» والذى وصفه مهاجموه بالعمالة للإنجليز، وكأن فتنة لا يخلقها إلا عدو متربص أو مواطن خائن! وهو ذات الخطأ الذى مازلنا نكرره بسذاجة مفرطة تحيلنا أطفالا نحكم إغلاق أعيننا كى ما تسترنا عن أعين الآخرين! فإن مؤتمر 2013 أيضا وبيانه العنيف لم يلقيا مصيرا مغايرا لمؤتمر وبيان عام 1911 فكلاهما موصوم بالتآمر، سيما وقد عقد الأخير خارج البلاد.
***
ولمن لا يعرف أصل مسمى الأقباط، فقد ظهرت كلمة «قبط» أو «قفط» لأول مرة فى مؤلفات الرحالة الغربيين الذين زاروا مصر أواخر القرون الوسطى، والكلمة مأخوذة عن العربية «قبط» وهى تعنى سكان مصر المسيحيين الأصليين، بينما يدعى أبناء الطوائف المسيحية الأخرى فى الشرق كالموارنة والأرمن والروم الكاثوليك.. وغيرهم «النصارى» نسبة إلى مدينة الناصرة. وكلمة «قبط» هى اختصار للكلمة اليونانية «إيجبتوس» التى تعنى «مصرى» وهى مختصرة بدورها عن كلمة أخرى (هوتــكاــبتاح) هى الاسم الكهنوتى لـ «منفيس» عاصمة مصر الفرعونية. وكانت اللغة العبرية تدعو المصرى بكلمة مضغوطة من «إيجبتوس» هى «جبتيح» التى نجدها فى الفرنسية بصيغة «جيتان» وفى الإنجليزية بصيغة «جبسى» (ويدعى بها الغجر ظنا بأنهم ينحدرون من أصول مصرية!).
ويعتقد المسيحيون عامة أن لمصر موقعا خاصا من المشيئة الإلهية حسبما وصفها الكتاب المقدس. فإبراهيم أب المؤمنين، عاش زمنا على ضفاف النيل، كما أن نبى الله يوسف أصبح وزيرا لدى ملك مصر، أما موسى ــ عليهم جميعا السلام ــ فقد حصل فى مصر علما لا يحصله سوى الأمراء، ودرس حكمة المصريين. كذلك فإن النبى «حزقيال» وعد بأن «الرب سيعرف المصريين بنفسه، ويومها سيعرف المصريون ربهم»، وبالتأكيد ربط المسيحيون الأوائل بين تلك النبوءة وبين الروايات الإنجيلية عن فرار العائلة المقدسة إلى مصر. ففى هذه القصة تعرفت الأدبيات القبطية على أولى إرهاصات المسيحية المصرية، ويقال إن السنوات الثلاث والنصف التى أمضاها الطفل يسوع فى مصر كانت مناسبة له ليغزو العديد من القلوب. (راجع مقالنا رحلة العائلة المقدسة والحج الإبراهيمى).
***
ليت شعرى متى ييأس أهل الظلام من بث الفرقة بين المصريين بسلاح الفتنة الطائفية، والاحتقان الدينى والمذهبى؟ الحادث تلو الحادث لا يزيد المصريين إلا تماسكا فى مواجهة الإرهاب الذى لا دين له. ولا يزيد الأقباط إلا بغضا ونفورا من حاملى ألوية الفكر الوهابى المستورد والمنتشر بدعم ورعاية المتربصين بأمن المنطقة كلها منذ عقود. حادث المنيا الأخير إن هو إلا حلقة دموية فى سلسلة من الجهل والعنف والضلال، وتصدى الدولة له بقوة وبسرعة أمر يخفف من ألم المصريين جميعا، لكن انتفاض أبناء المجتمع له على اختلاف عقائدهم، هو وحده ما يضمن محاصرة هذا الفكر القبيح ولفظه من البيوت والمساجد والزوايا.
إن مصر لكل المصريين لا يمكن أن تختزل فى طائفة أو أصحاب ديانة أو مذهب، لا يمكن أن تذهب آلاف السنين التى صهرت شعوبا وقبائل فى سبائك نادرة أدراج الرياح. الطريق إلى إدارة الأزمة يبدأ باكتشافها ثم تقديرها وقياسها لوضع خطة العلاج، وتبقى قيم المواطنة والعدالة والمساواة أمام القانون وتجريم التمييز العنصرى والحض عليه ضمانات دائمة وشاملة للخروج من مختلف أزماتنا الطائفية.