طيب مرة كمان ــ بعد غياب ــ نفتكر الناس طلعت ليه يوم ٢٥ يناير، والناس ليه فى الشوارع إلى الآن، والشباب ليه استشهد، والشباب ليه احتسب فقدان عينيه وأطرافه تضحية، وإيه حق الشهيد اللى لازم نجيبه، وحلم الشهيد اللى لازم نحققه: عيش! حرية! عدالة اجتماعية!
أما عن «الحرية»، فالمجموعة الحاكمة لا تريدها للشعب، والدليل على ذلك هو الرفض التام لأى نقاش جدى فى إعادة هيكلة المنظومة الأمنية فى مصر، بل تعيين وزير للداخلية كان مدير أمن القاهرة فى أحداث محمد محمود الأولى، والدليل الدامغ أيضا هو ما نقرؤه فى تقرير مؤسسة النديم حول المائة يوم الأولى لهذا الرئيس، وما حدث فيها ــ ويستمر ــ من قبض وتعذيب وقتل. ثم هناك مؤخرا قانون الضبطية القضائية الذى أصدره محمد مرسى، ليمكن به القوات المسلحة من الإشراف على استفتاء الدستور والتحايل على الشروط التى وضعها القضاة كى يقوموا بدورهم فى هذا الإشراف.
وأما عن «العيش» فقد وضحت الرؤية الاقتصادية ــ إن أمكن أن نسميها «رؤية» ــ للمجموعة الحاكمة، بهرولتها المباشرة تجاه صندوق النقد وما شابه، وببحثها عن الحلول لإشكاليات (ولا أقول مشاكل) مصر الاقتصادية فى الاقتراض والبحث عن المعونة، وهى نفس الإجراءات السطحية البلهاء قصيرة المدى التى كان يتخذها النظام السابق، والتى أدت إلى الثورة عليه.
أما «العدالة الاجتماعية»، فأقول إن هذا النظام، مثل سابقه، يستهدف الفقراء، وبغلظة أكثر ــ ربما تنبع من عدم التمرس، وعدم الدراية بالتوازنات التى يجب الحفاظ عليها لكى يتحمل الفقراء سرقته واستغلاله لهم لأطول فترة ممكنة. رأينا بشاير مشروع جمال مبارك «القاهرة ٢٠٥٠» تتجرأ على الظهور مرة أخرى، فى عهد مرسى الرئيس، بعد اختبائها منذ يناير ٢٠١١، فبزغت علينا فى «رملة بولاق» وفى «القرصاية»، حيث سقط شهداء من الأهالى وهم يدافعون عن حقوقهم، ودخل غيرهم الحبس وما زالوا فيه. ورأينا استهداف الباعة الجائلين فى الممارسات الأمنية وفى القوانين المستصدرة. ورأينا مسودة دستور تفتح الباب لحل النقابات العمالية، ولتقنين عمالة الأطفال، ولحرمان الأسرة التى يبلغ دخلها ٣٥ جنيها فى اليوم من الحق فى الرعاية الصحية.
لم نتحرك، إذا، من مشهد البلاد تحت النظام السابق، إلا فى شخوص بعض لاعبى الأدوار الرئيسية، وفى الغلالة الدينية التى يحاول هذا النظام التستر وراءها.
لكن هذا النظام ــ نظام الإخوان ومن والاهم ــ يواجه أيضا مشكلة داخلية كبرى. فحتى وإن افترضنا أن مفهوم الـ«حرية» لا يعنى الكثير لأتباعه، وأنهم سعداء بأن يعبأوا فى أوتوبيسات ليؤيدوا قرارات الرئيس يوم الاثنين، ثم يعبأوا فى أوتوبيسات ليؤيدوا قراراته المعاكسة يوم الثلاثاء ــ فإن همهمم الأساسى، كأغلب المصريين، هو همّ «العيش»، وهمّ «العدالة الاجتماعية» ــ سواء أطلقوا عليها هذه التسمية أم لا. فإن كان مرسى ومجموعته ينوون تمرير قوانين وممارسات وضرائب سوف تؤدى إلى تردى أحوال مؤيديهم المعيشية، فما الذى يستطيعون تقديمه لهم لشحنهم فى صف هذا النظام، وضمان ولائهم، بل وضمان استمرارهم فى أن يكونوا القوة الضاربة للنظام (كما كان البلطجية للنظام السابق)؟ وهنا يأتى دور الخطاب الدينى المتأسلم، واللعب على الهوية، وهى نفس لعبة بث الفرقة بين أطياف الشعب التى كان يقوم بها نظام مبارك، والتى حاول طنطاوى أن يدخل فيها ــ تلعبها اليوم المجموعة الحاكمة وشيوخها، فيستخدمون الكلمات الكبيرة ويلعبون بمستخرجات المصدر ش/ر/ع، ويحاولون إلهاء الناس عن مشاكلها الحقيقية باختلاق مشكلات وهمية تفرق بين أتباعهم وبقية الشعب. فسمعنا قادتهم وشيوخهم يقصون شهداء الثورة عن الجنة (!!!) وسمعنا التخوين والتكفير والاتهام بالعمالة.
ربما تنجح هذه الخطة إلى حين. أعيد مشاهدة ذلك الشريط القصير، يوم هجوم كادرات الإخوان على اعتصام الثوار فى الاتحادية، وأرقب ذلك الرجل الذى يشوح بعلبة الجبنة ويصرخ «البرادعى! حمدين! أمريكا! جبنة نستو يا معفنين!» الحقيقة هو يبدو صادقا تماما فى انفعاله، بل يبدو أنه قد وصل للإصابة بمس من الجنون، ربما لأنه لا يفهم لماذا أصبح مطالبا بأن يغضب لأن الناس تتزود بالجبنة النستو. عموما لن تنجح هذه الاستراتيجية إلى الأبد، وإفشالها سيتولى جزءا كبيرا منه النظام الحاكم نفسه بسياساته الاقتصادية؛ رأينا منذ يومين ذلك الإعلان المفصل لزيادة الأسعار والهجوم على القليل الباقى فى جيوب الغلابة. عدلوا عنه خلال ساعات لأنهم خافوا أن يدرك كوادرهم ــ قبل موعد التصويت على الدستور ــ من هو عدوهم الرئيسى. لكنهم سيضطرون ــ طالما ينهجون هذه السياسة الاقتصادية ــ إلى العودة إليه مرة أخرى. سيضطرون إلى تطبيق سياسات اقتصادية معادية للشعب، وسيحاولون إلهاء الشعب بالحرب مع نفسه. وهنا يأتى العمل الأساسى الآن للثورة: المعركة تتركز فى الاقتصاد وفى العدالة الاجتماعية، والجهد ضرورى للوصول إلى الناس فى شتى أنحاء البلاد والحديث معهم فى هذا. الناس تعرف هذا، تحتاج فقط التذكرة، وتحتاج مد خيوط التواصل فتتصل التكتلات الشعبية ببعضها وتكون فاعلة.
وأما عن هذا الدستور، فهو مرفوض ــ فى رأيى ــ من أغلب الشعب، وفى رأيى أيضا أن الكثيرون غاضبون منه بشكل شخصى، وعندهم دافع كبير لأن يذهبوا إلى الاستفتاء ليقوموا بفعل رفض الدستور، هذا طبعا فقط فى حال الإشراف القضائى على هذه المهزلة الجديدة.
أعتذر (للأصدقاء الذين يشرفونى بمحبتهم) عن غيابى: غبت لظروف عدة، أهمها ضرورة الانتهاء من إعداد النص العربى لكتاب «القاهرة، مدينتى وثورتنا»، ثم إعداد الطبعة الإنجليزية الثانية منه، والتى ستنشر فى إبريل تحت عنوان «القاهرة: مدينة تَبَدَّلَت». أما من لا يحبون ما أكتب، من «اللجنة» وغيرها فقد أخذتم استراحة منى، ربما تساعدكم فى التجديد بعض الشىء فى الألفاظ التى ترصعون بها تعليقاتكم.