المشهد المألوف هذه الأيام منظر بعض فرسان العولمة يترجلون مثل دونالد ترامب وكثيرين من عمالقة الطبقة التى ينتمى إليها وتيريزا ماى وكثيرين من قادة الأحزاب فى دول أوروبا. يترجلون لوهلة قد تطول.
صار مألوفا كذلك فى نفس المشهد منظر بعض هؤلاء الفرسان يعتذر ويصحح. من هذا البعض مبشرون بالعولمة ودعاة ومنظرون كبار فى مجال التطبيق الأحدث للرأسمالية مثل كارلوس شواب الرئيس الأعلى والمؤسس لمنتدى دافوس، رمز العولمة وشعار عصرها وكعبة كل الفرسان والطامحين لتقلد شرف الانتماء لهذه النخبة. فى المشهد أيضا منظر فرسان جدد وأشباه فرسان يتحركون فى جحافل ويعرضون على العالم بأسره عولمة منقحة ومحسنة أو عولمة بديلة لتلك التى يعتقدون أن ساعتها حانت بعد أن أنجزت ما استطاعت أن تنجزه وبدأت تعجز عن حمايته أو تطويره. يكشف المشهد فى أحد تجلياته عن عولميين جدد تدفعهم طموحات إمبريالية ربما أكثر شمولا واتساعا من طموحات البريطانيين فى أوج عظمتهم، هؤلاء هم من الصين جاءوا إلينا مرورا بجنوب آسيا أو مرورا بجنوب أوروبا تاركين فى كل ميناء كبير أو صغير استثمارا ضخما واتفاقيات استغلال وتشغيل ومشاركة أكثرها بعقود تمتد إلى تسعين عاما. هؤلاء يتحركون وفى ركابهم جحافل عمال وفنيون وخبراء، منهم من يعود بعد حين إلى الصين ومنهم من سوف يستقر برضاء وربما بتشجيع من الحزب الشيوعى الصينى. كل هؤلاء سوف تلحق بهم فى أكثر من سبعين دولة طلائع عصر الذكاء الاصطناعى حين تكون الصين قد استحوذت على أكثر من نصف معلومات العالم واختزنت احتياطيات تكفى ضمانا لهيمنتها المعلوماتية وسيطرتها على سوق منتجات الذكاء الاصطناعى لعقود قادمة.
المشهد بالفعل معقد ومشتبك مع مشاهد أخرى ليست أقل تعقيدا. عالم فى كثير من أنحائه يتفكك. ردة فعل شديدة للعولمة الراهنة فى شكل رفض لنمط العلاقات المتعددة الأطراف وهو ما يفعله دونالد ترامب، أو فى شكل انحسار الميل والاستعداد للتنازل عن جزء من السيادة مقابل مزايا تقدمها المؤسسات والعلاقات متعددة الأطراف، وهو ما صار يميز دولا أعضاء فى الاتحاد الأوروبى ودولا فى حلف الناتو. بعض هذه الدول تعتقد أن شعوبها تحن إلى هوياتها المستقلة والمهددة بالانطفاء والذبول تحت ضغط هويات أكبر مثل الهوية الكونية (العالم قرية كونية) التى ذاعت وبشر لها قادة العولمة ومنظروها حتى مطلع التسعينيات، ومثل الأوروباوية التى نادى بها المؤسسون للوحدة الأوروبية فى أعقاب الحرب العالمية.
***
فى المشهد الراهن، وعلى رقعة منه تتوسع باستمرار، نراقب بكثير من القلق ظاهرة دفعنى للاهتمام بها سعى مجموعة من الأصدقاء لفهم الظروف المتسببة فى صعود وانحدار الصحف المحلية، وبدقة أكثر، انحدار الإعلام المحلى خلال فترات ازدهار العولمة وهيمنة سياساتها والانخراط المتزايد للقيادات الاقتصادية والسياسية المحلية فى مسيرتها. اكتشفنا على سبيل المثال تناقضا واضحا بين تطور اتجاهين أفرزتهما مسيرة العولمة، أولهما تآكل مهام ووظائف وفاعلية مؤسسات الإدارة المحلية وتراخى الأدوار المكلفة بها من أجهزة ومؤسسات الدولة المركزية. واقع الأمر يشهد بأن «الدولة» الوطنية فى ظل العولمة ركزت معظم جهودها على التجارة الخارجية، أى سمحت للسوق بآلياتها وأفكارها وقياداتها بأن تحل محلها. هذه الدولة، وبخاصة فى أقاليم العالم النامى، سلمت جوانب عديدة من سيادتها لقوى خارجية وداخلية، تقودها أو تحركها قوى السوق، ومنها الشركات العظمى والمصارف وكبار الممولين والمصدرين والمستوردين والوكلاء التجاريين. كلها فى الحقيقة قوى لا سابقة لقيادات الحكومات المحلية فى التعامل معها ولا قدرة حقيقية على تحصيل حقوق عادلة منها. حدث هذا، وما زال يحدث، بينما كانت العولمة تتسبب مباشرة وعبر تطورات لصيقة فى إنعاش هويات محلية متجذرة. هويات تصعد وتتصاعد فى كل الأشكال الممكنة بينما سلطة وكفاءة وإنجازات الإدارة المحلية تتضاءل وتتآكل. حدث ومازال يحدث أن المحليات لم تعد تنجب إبداعات وإنجازات علمية وأكاديمية وربما أدبية إلا ما ما اتصل منها بحاجات وآليات وممثلى «السوق» العالمى أساسا وبالحكومة المركزية ثانيا. هكذا صرنا نرى هويات محلية حرمت طويلا فى مرحلة بناء الدولة من الاعتراف بها وشحذ قدراتها وإبداعاتها يستمر حرمانها فى ظل العولمة التى اشترطت على الهويات المحلية الولاء للسوق وأيديولوجية النظام العالمى ثمنا للحصول على دعم قوى العولمة فى مواجهة استمرار تجاهل «الدولة» لها. نفهم الآن، أكثر من أى وقت سابق، سببا من أسباب فقدان الود بين أقليات عديدة وبين طرفى العلاقة فى العصر الحديث وهما العولمة بمعنى قوى السوق والحكومة المركزية، بمعنى الدولة. الأمثلة عديدة نجدها فى الهند وسيريلانكا والبرازيل وميانمار والصين والدولة المغربية والجزائر ومصر والعراق بل نراها وراء صعود الشعوبية وتجليات الثورات الملونة وآخرها فى فرنسا وبعض أزمات الاتحاد الأوروبى وجوانب هامة ومتعددة فى الظاهرة الترامبوية.
***
صديق متابع لتطور الأحوال فى المجتمعات المحلية ومنشغل بها وعليها طلب منى أن أحذر من عواقب استمرار صعود النقيضين، زيادة ضعف الإدارة المحلية من ناحية وتصاعد قوة الانتماء للهويات الثانوية من ناحية أخرى. ليس صعبا التكهن بأن أول الخسائر سيكون من نصيب الانتماء للوطن، أى للمواطنة. وفى الوقت نفسه ليس صعبا أن تقتنع الطبقات الحاكمة أنه من مصلحتها ومصلحة الاستقرار تحسين ظروف الحياة فى المجتمعات الإقليمية كتحديث التعليم وتشجيع الجهود الذاتية ومكافأة الابتكار والمنافسة والإبداع وخلق الوظائف. لا شك عندى فى أن مبعث معظم القلق السائد حاليا فى أجزاء عديدة من الشرق الأوسط نجده فى الدول التى أهملت طويلا وبشكل لافت رأى ومصالح بل وحتى وجود هويات ثانوية ومجتمعات محلية تحتاج عناية خاصة، والدول التى أسلمت قيادها لقوى العولمة دون تروٍ وقبل وضع خطط للاستعداد لمواجهة السلبيات، مبعثه أيضا فى دول لم تدعم أسواقها المحلية وصناعاتها الناشئة ودول لم تنتبه إن لمجتمعاتها المحلية تاريخا ممتدا وموازيا أو مكملا لحضارتها، وفى دول لا تعترف بأن كل مجتمع محلى فيها ساهم فى صنع ثقافة شعبية تزهو بها الأمة عبر الأجيال وحدود الوطن وتعتبره إضافة قيمة منها إلى كنوز الثقافة العالمية.
***
توصلت إلى اقتناع بأن العولمة فى طبعتها الأخيرة تجاوزت خلال مراحل صعودها ورحيلها حدودا عديدة وحطمت فى غزواتها قيودا وأعرافا كان قد شرعها أباء أسسوا لنظام دولى جديد. إنجازاتها معروفة ولا يمكن إنكارها. أما سلبياتها فأمرها غريب. تظهر لنا الآن أو نكتشفها واحدة بعد الأخرى. منها ما استطاع أن يتخفى فى شكل تطور إيجابى ولكن إلى حين. انتعشت هويات ثانوية وحلت هويات فوق الوطنية محل الهوية الوطنية أو طاردت هويات أخرى فوق وطنية نافستها طويلا قبل أن تزيحها وتحل محلها. ارتفعت معدلات النمو الاقتصادى ومعها ارتفعت معدلات الظلم الاجتماعى لتتشوه صورة الديمقراطية.
مفيد لنا ولا شك ولأجيال من بعدنا أن نحافظ على إيجابيات وثمار آخر تجربة دخلناها مع العولمة. مفيد لو بدأنا بالمجتمعات المحلية نصحح فيها بعض أخطاء العولمة وسلبياتها. مفيد لو ننعش الثقافات المحلية ونجدد ولاءات وانتماء الأقليات وسكان الهوامش الذين استقطبتهم العولمة قبل أن تضع ضمانات وقواعد إدماجهم فى مسارات العولمة وفى مسالك أوطانهم.