نشرت صحيفة الحياة اللندنية مقالًا للكاتب «حازم الأمين» يتحدث فيه عن الفساد فيقول: هل من فارق بين طبيب مهمل أودى بحياة مريضه، واحتمى بشبكة فساد تقيه حساب القانون، وبين قاتل أقدم على إعدام ضحيته فى الطريق بعد خلاف على أفضلية المرور، علما أن الثانى استعان بسلاح وفره له أيضا فساد موازٍ وبشعور بفائض قوة وفره له صدوره عن جماعة أهلية أتاحت السلطات لها اقتناء السلاح لقتال «العدو».
إن الدولة المستباحة فى لبنان أتاحت لنوعى القتل هذين أن يتصدرا الحياة العامة فى الأسبوعين الفائتين. لكن النوع الأول من القتل أخذ طابعًا «وطنيًا»، وأثار نقاشًا «مدنيًا» حول قوانين حماية المريض من هوس التسويق ومن المستشفيات المستفيدة من نفوذ أصحابها لدى المسئولين، فيما نوع القتل الثانى، ولبنان شهد منه فى الأيام القليلة الفائتة أكثر من خمس وقائع، ذهب النقاش حوله إلى «الطائفة المسلحة» وإلى شعور القاتل بأن القتل مباح لمن هم من جماعته.
يفيد الكاتب أن فساد الدولة فى الحالين أفضى إلى إزهاق أرواح مواطنين. فالفساد جوهرى وليس شكليا حتى يقال: إن مكافحته لا توازى بأهميتها مطلب نزع السلاح من يد جماعة أهلية. والدولة هذه، ولكى ترضى جماعاتها «غير المسلحة» وسعت لهم هامش فساد غير مسلح. الطائفة المغبونة بالسلاح عوضت بالفساد، وفى أحيان أخرى تغبن «الطائفة المسلحة» بحصتها من الفساد فيعوض عليها بالتعيينات الإدارية، أو بإعفاء مناطقها من دفع فواتير الكهرباء. ثم يأتى دور الطائفة التى تدفع فواتير الكهرباء، فتصدر تعيينات عسكرية يتصدر فيها ضباطها المواقع.
هذه دوامة الفساد التى أسسها حاكم لبنان العسكرى غازى كنعان فور انعقاد الجمهورية اللبنانية الثانية فى العام 1990. وهى خدمت فى شكل أساسى فكرة «الدولة المقاومة» التى أوكلت للبنان فى سياق النزاع الإقليمى. فإن تتيح البيانات الوزارية المتتالية لجماعة أهلية اقتناء السلاح، فإن فى ذلك تدميرا لفكرة السلطة سيتيح لاحقًا نفاد الفساد إلى كل مستويات الحياة العامة. القاتل فى الأسبوع الفائت لم يأتمر بجماعته حين قتل ضحيته بعد خلاف مرورى، لا بل أن جماعته سرعان ما تخففت منه ومن فعلته. لكن القتل هنا كان امتدادا لسلاح له «شرعيته». والطبيب الذى أودى بحياة مريضه، استعان بنظام حماية موازٍ، ليست الطائفة ركيزته، إنما شعوره بأن التخفف من قواعد العمل أمر تتيحه سلطة فاسدة يمكن شراء كل شىء فيها طالما أن وظيفتها تعويض غبن لحق جماعاتها جراء قبولها بالمهمة الأولى، أى مهمة «الدولة المقاومة».
يضيف الأمين أيضا أن فى لبنان يمكن الحديث عن فساد الطوائف فى موازاة فساد الدولة ونخبها وبيروقراطييها. فللفساد شبكة واسعة من الحمايات الاجتماعية، بالإضافة إلى الحمايات السياسية والأمنية. للفاسد بيئة أمان وملاذات طائفية وإعلامية وطغم مالية حاكمة.
ثم يختتم الأمين مقاله بأن المسارعة إلى إدانة عبارة أن «الشعب فاسد أيضا»، بصفتها نوعا من الصواب السياسى، لم تعد كافية. فالنخب السياسية والمذهبية المسئولة عن هذا الخراب جميعها منتخبة وسيعاد انتخابها قريبا، و«الشعب» الذى ينوء تحت أثقال فسادها يدرك أنه ذاهب إلى مقصلته فى يوم ذهابه إلى صندوق الاقتراع، وهذا لن يثنيه عن الاقتراع لقاتله. الطائفية أقوى من المستقبل وأقوى من الحياة. الجثة الراقدة فى براد المستشفى ستقترع لمن أودى بحياتها. هذا هو لبنان على ما يبدو، وفى أحسن الأحوال سيعوض لبنانيون شعورهم بالغبن بأن يدفعوا عن أنفسهم ثقل الجريمة عبر ردها إلى «طائفة مسلحة».
الحياة ــ لندن