شبيبة بن لادن - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:26 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شبيبة بن لادن

نشر فى : الإثنين 13 سبتمبر 2021 - 9:50 م | آخر تحديث : الإثنين 13 سبتمبر 2021 - 9:50 م
عشرون عاما مضت على أحداث الحادى عشر من سبتمبر عام 2001. مازال العالم يحصى خسائره، ولا يعرف رجلا واحدا أثّر فى حركة التاريخ منذ الحرب العالمية الثانية كما فعل أسامة بن لادن. أذكر هذا اليوم جيدا كنت أجلس إلى جهاز الحاسوب على مقربة من شرفة كبيرة تطل على نهر النيل فى حى جاردن سيتى. كنت حديث التخرّج وأعمل فى وظيفة مرموقة بإحدى شركات البترول الأمريكية الكبرى، فجأة تحوّلت الصفحة الرئيسة للموقع الإخبارى لشبكة سى إن إن إلى عنوان واحد هو يوم الفزع «the day of terror». فى البداية ظننت أن الموقع قد تم السطو عليه من قبل بعض قراصنة الإنترنت، لكن المواقع كلها بدأت تنشر أخبار الحادث الإرهابى تباعا.
لم تمر دقائق حتى بدأت التعليمات تتدفق من المركز الرئيس بالولايات المتحدة برفع حالة التأهب بمقار الشركة الأمريكية إلى الكود البرتقالى، وكان لهذا أكثر من مدلول. كان من الضرورى إزالة أى علم أمريكى أو إشارة إلى الولايات المتحدة من كل أبنية الشركة فى مختلف دول العالم. وكان على الموظفين أن يتبعوا نظاما معينا فى الحضور والانصراف، وعلى الإدارة أن تنشر وتراقب عددا من التعليمات المفروضة على الجميع. كان هذا أحد أهم دروس إدارة المخاطر المؤسسية التى تلقيتها فى مقتبل حياتى المهنية، فكل أنواع الحوادث لها ترتيبات مناسبة تم وضعها ومراجعتها مرارا قبل وقوع أى حادث بوقت طويل.
***
منذ تلك اللحظة المقبضة لم تعد الأرض تدور فى مدارها المعتاد، لم يعرف العالم سكونا أو دعة. وكما اعتاد بعض الأعراب على غير هدى فقد انحازوا إلى الأشرار، وأخذ البعض يوزّعون الحلوى فى الطرقات العامة ويرقصون على أنغام سقوط الولايات المتحدة الأمريكية! تحوّل العالم إلى فسطاطين، أحدهما ينتصر إلى الإنسانية والتنديد بكل أعمال الإرهاب الخسيسة المستهدفة لأرواح الأبرياء، والآخر شامت فى سفور وقح يعتبر الحادث بشرى خير للقضاء على الإمبريالية والاستعمار الغربى فى صورته الحديثة! ومن هؤلاء من يلبس شماتته رداء تعاطف زائف مع المدنيين، يذيّل عبارات المواساة بعتاب للإدارة الأمريكية باعتبارها هى التى جلبت الموت على رعاياها بسياساتها الظالمة. وإذا كانت الولايات المتحدة قد فعلت هذا بالفعل، فليس من الذوق (ولا أقول من الحكمة) أن توجّه اللوم لها فى ذلك السياق، وتخلق بطولات لرجل متطرف مثل «جوليانى» عمدة نيويورك حينها، عندما رد يد المساعدة من أحد أمراء العرب لأنها امتدت مقترنة بعتاب موجّه وإذلال غير مقبول.
الإنسانية لا تعرف المواربة فى التضامن مع كل ما هو إنسانى، ولا تنتهز الفرص لنيل لذة مريضة من لحظة ضعف صنعها عمل خسيس لا شجاعة فيه ولا حكمة من ورائه. وفّر العمل الإرهابى والاحتفالات الغبية لشبيبة بن لادن هنا وهناك غطاءً لحملة غاشمة على أفغانستان ثم العراق، وإشعال الشرق الأوسط كله بنيران حقد ومرارة، استخلصها رئيس محدود من صدور شعب مكلوم منهزم، أفقدته الضربة اتزانه وأمنه المتوهّم إلى الأبد.
السياسيون المهرة الراشدون يفاضلون بحرص بين الشرور فيختارون أخفها ضررا، ولطالما كان بمصر من هذا الصنف ما فيه وقاية من تقلبات الحمقى ورعونة الأطفال. كان النحاس باشا يعرف جيدا أن الفاشية والنازية أخطر على مصر والعالم من الاحتلال الإنجليزى، على عكس الكثيرين ممن أطلقوا الهتاف الشهير أسرع يا رومل be quick Romell فى نداء إلى القائد الألمانى الشهير «إروين رومل» المعروف بثعلب الصحراء، ليدخل مصر من حدودها الغربية فيخلصها من قبضة الإنجليز! كانت مكايدة الملك فاروق للبريطانيين من هذا الباب أكبر أخطائه على الإطلاق، فقد بررت حادث 4 فبراير المشين، ومهّدت للتخلّص منه نهائيا بعدما تحقق النصر للحلفاء.
كذلك شرور الإرهاب والتعصّب الأعمى، فالانحياز ضدها فرض عين على كل عاقل. كراهتك للمعتدى عليه لا تسوّغ أبدا انحيازك للإرهاب ولو بميل قلبك. معارضتك للبلطجة الغربية لا تمنحك براءة من الذنب إن أعلنت تأييدك للبغدادى، وخلعت صفات البطولة والشهادة على عناصر تنظيم القاعدة. الانحيازات الشعبية لها دلالات كبرى. تخيّل معى لو أن الشعب الألمانى ظل يعلّق شعارات هتلر النازية على جدران البيوت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية! هل كان العالم ليصفح عن ألمانيا ويفتح معها صفحة جديدة حتى أصبحت واحدة من أقوى الاقتصادات فى العالم مرة أخرى؟! تخيل لو أن المد الخافت الهذيل لما يعرف بالنازيين الجدد فى ألمانيا وشبيبة موسولينى فى إيطاليا كان كاسحا ممتدا مفصحا عن نفسه فى مختلف وسائل الإعلام، هل كان العالم ليقف متفرجا على مولد سفّاحين جدد يشعلون حروب تطهير عرقى وإبادة جماعية؟!
***
الخسائر الاقتصادية لأحداث الحادى عشر من سبتمبر كانت مؤلمة. مدينة نيويورك وحدها (وهى عاصمة المال فى العالم) فقدت 430 ألف وظيفة، اختفى على أثرها نحو 2.8 مليار دولار من الأجور خلال الأشهر الثلاثة التالية على الهجمات. وقد خسر الناتج المحلى الإجمالى للمدينة ما يقرب من 30.3 مليار دولار خلال ما بقى من العام 2001 والعام التالى عليه، وهى الفترة التى قدمت فيها الحكومة المحلية مساعدات عاجلة بلغت نحو 22 مليار دولار. أصحاب الأعمال الصغيرة كانوا الأكثر تضررا فى محيط برجى التجارة المستهدفين بالهجمات. فقد تدمر ما يقرب من 18 ألف عمل صغير أو على الأقل تم نقله تماما عقب الهجمات بما فى ذلك من تكلفة اقتصادية واجتماعية.
بمجرد وقوع الحادث الإرهابى ارتفعت أسعار الذهب ببورصة لندن من نحو 215.50 دولار للأونصة إلى 287 دولارا، كما تداعت كل بورصات الأوراق المالية حول العالم بشكل لم تشهده منذ الكساد الكبير مطلع ثلاثينيات القرن الماضى.
كان قطاع التأمين الخاسر الأكبر بين مختلف أنواع النشاط الاقتصادى، وتكبدت شركات التأمين وإعادة التأمين خسائر بالمليارات فى صورة تعويضات وتراجعات فى أسعار أسهمها بالبورصات. كما كان قطاع الملاحة والطيران من أكبر الخاسرين فى الأزمة، وتعرّض العديد من شركات الطيران للإغلاق والإفلاس على أثر اختطاف الإرهابيين للطائرات لتنفيذ الأعمال الإرهابية فى الحادى عشر من سبتمبر 2001. لا داعى لنذكر خسائر قطاعات السياحة والتجارة الخارجية، فقد ظل نزيفها مستمرا لسنوات طوال بعد الحادث وبسببه. أما عن حربى أفغانستان والعراق فقد قدّرها بعض المحللين بنحو 6 تريليونات دولار ومازال إحصاء الخسائر مستمرا.
الهجمات الإرهابية كان لها جوانبها الأخرى، فقد أثبتت قدرة الاقتصاد الأمريكى على سرعة التعافى من الصدمات وهو ما يعرف بالـ resilience. فعلى الرغم من الخسائر المالية السابق الإشارة إليها، لم يتعد الضرر المباشر للهجمات ما نسبته 1% من الناتج المحلى الإجمالى للولايات المتحدة الأمريكية. فقد خلقت تلك الدولة العظمى تشابكات اقتصادية وجيوسياسية كثيرة مع عدد كبير من الدول الكبرى، بحيث يؤذّن سقوطها بدمار شامل لمختلف اقتصادات العالم. وهو المفهوم الذى ظهر اصطلاحه لاحقا فى أعقاب أزمة الرهن العقارى فى 2008 تحت عبارة «أكبر من أن تسقط» too big to fail وإن كان المقصود هنا هو شركة «ليمان براذرز» أو غيرها، فإن الإشارة تنسحب بالتأكيد على الاقتصاد الأمريكى فى مجمله. المصالح المشتركة هى ضمانة الدول الحديثة للاستقرار، وسبيلها المؤكد لتحقيق السيادة واستدامتها.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات