لم يكن غريبا أن تتصدى حكومة جنوب إفريقيا لجريمة الإبادة الجماعية التى ترتكبها إسرائيل فى حق الشعب الفلسطينى فى الأراضى المحتلة وخصوصا فى غزة.
فالصهيونية، المشروع الفكرى الذى قامت على أساسه إسرائيل، هى فى جوهرها دعوة عنصرية انقسم بشأنها اليهود أنفسهم. لا ينكر أحد الاضطهاد الذى تعرض له اليهود فى أوروبا المسيحية، حيث ولد العداء لليهودية وسمى خطأ عداء للسامية، ولكن القول بأن حل هذه المشكلة ليس بمكافحة هذا العداء فى أوروبا ذاتها، ولكن بذهاب يهود العالم إلى فلسطين حيث يوجد منذ عشرات القرون شعب آخر بدعوى أن فلسطين هى أرض بلا شعب، ومن ثم تصبح موقعا مناسبا لشعب بلا أرض. مثل هذا القول ينضح بالعنصرية التى تتجاوز التمييز العنصرى إلى إنكار وجود شعب آخر من الأصل. ولذلك كان من المنطقى أن يرى المناضلون ضد التفرقة العنصرية فى جنوب القارة الإفريقية أن التمييز العنصرى والصهيونية هما وجهان لنفس العقيدة الاستعلائية التى تذهب إلى حد إنكار وجود شعب أصلا أو تبرر التمييز ضد من ينتمون إلى شعب آخر بسبب لونه.
ولذلك عرفت مناقشات حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة منذ ١٩٦٢ تردد الاقتراح بالمساواة بين العنصرية والصهيونية، فهما وجهان لهذه العقيدة البيضاء الاستعلائية. وكان هناك اقتراح بالنص على ذلك فى المناقشات التى أدت إلى صياغة اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على كل أشكال التمييز العنصرى والتى تمت فى سنة ١٩٦٥، ولكن الرغبة فى إدانة الصهيونية كإحدى صور التمييز العرقى تأخرت إلى عام ١٩٧٥، عندما تزايد التضامن مع الشعوب العربية بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، وصعدت مكانة بعض الدول العربية المصدرة للنفط فى النظام العالمى، وتوج هذا التطور بإصدار الأمم المتحدة قرارها ٣٣٧٩ فى الدورة الثلاثين لجمعيتها العامة فى ١٠ نوفمبر ١٩٧٥. صحيح أن الجمعية العامة قد ألغت هذا النص بعد انتهاء الحرب الباردة نتيجة الضغوط الهائلة التى مارستها كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وبعد أن تعددت اتفاقات وممارسات التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية، لكن الاعتقاد بالجوهر العنصرى للصهيونية ظل حيا فى نفوس الكثيرين فى جنوب إفريقيا وبين الشعب الفلسطينى.
إذ لم يتردد نيلسون مانديلا ــ أول رئيس لجنوب إفريقيا بعد انتهاء الحكم العنصرى ــ فى الإشادة بنضال الشعب الفلسطينى وتأكيد التضامن معه. ولم يكن ذلك نتيجة قناعة فكرية وحدها، ولكنه استند إلى دلائل محددة ومؤكدة بتحالف إسرائيل مع حكومة جنوب إفريقيا العنصرية، والذى وصل إلى حد التعاون فى إجراء تجارب نووية مشتركة. ولذلك استمرت حكومة جنوب إفريقيا تحت قيادة حزب المؤتمر الإفريقى تتخذ نفس الموقف بالتضامن مع الشعب الفلسطينى.
تجاوزتْ هذه القناعة، بأن التمييز العنصرى والصهيونية وجهان لعقيدة واحدة، فلسطين وجنوب إفريقيا وصارت قناعة ثابتة لدى حركات التضامن العالمية مع الشعوب المضطهدة. وأذكر أنى دعيت إلى مؤتمر فى شمال فنلندا لمناصرة شعبى جنوب إفريقيا وفلسطين. وتساءلت ما الذى يدعو شعوب الشمال لمجرد الاهتمام بقضايا شعوب الجنوب الملونة؟ ولكنى دهشت عندما دخلنا إلى قاعة المؤتمر، إذ كان هناك المئات وكثير منهم من الشباب ومن الرجال والنساء يمثلون نقابات وأحزابا سياسية متنوعة.
حكومة جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية
لهذه الأسباب لم يدهشنى أن تتبنى حكومة حزب المؤتمر الإفريقى قضية الشعب الفلسطينى، وتتقدم بطلب إلى محكمة العدل الدولية بلاهاى تتضمن الأمر بإجراءات احترازية بوقف الأعمال المسلحة للقوات الإسرائيلية فى غزة، وإدانة إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية فى حق الشعب الفلسطينى بالقطاع، بل أن يفخر رئيس جمهورية جنوب إفريقيا بهذه المبادرة، وقد اطلعتُ على نص طلب حكومة جنوب إفريقيا كما شاهدتُ الجلستين الأوليين فى هذه المحاكمة، واللتين قدم وفد جنوب إفريقيا حججه فى أولاهما، وقدم وفد إسرائيل ردوده فى ثانيتهما.
الحقيقة أن وفد جنوب إفريقيا والذى تألف من خمسة أشخاص يمثلون التعدد العرقى والنوعى فى شعبها. ويحتل أعضاؤها مناصب رفيعة فى حكومتها، ومن بينهم مستشار للرئيس، ووزير العدل، وأساتذة جامعات، ومحامون ضليعون فى قضايا حقوق الإنسان، وإلى جانبهم فريق مساعد من خمسة خبراء، ويقود هذا الفريق جون دوجارد ــ وهو مقرر سابق للأمم المتحدة لشئون الأراضى المحتلة ومن جنوب إفريقيا ــ كما أنه قاض سابق فى محكمة العدل الدولية. وقد أعد موقفا متماسكا ومتناسقا يستند إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية الموقعة فى سنة ١٩٤٨.
سبب الاستناد إلى هذه الاتفاقية هو أنها تعتبر أن وقوع هذه الجريمة هو مسئولية كل الدول الموقعة عليها، فلأى منها أن تلجأ لمحكمة العدل الدولية فى لاهاى للمطالبة بوقف ارتكاب هذه الجريمة، وكل من إسرائيل وجنوب إفريقيا قد صدقتا على هذه الاتفاقية، ولذلك فإسرائيل ملزمة ــ بموجب هذه الاتفاقية ــ أن تقبل اللجوء إلى المحكمة الدولية، بل إن هذه الاتفاقية ذات أهمية خاصة لإسرائيل، فقد أبرمت بعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان القصد الأول منها إدانة ما جرى لليهود فى أوروبا من ممارسات شكلت إبادة جماعية لمجتمعات يهودية، وبهدف استئصال وجود اليهود فى الدول التى جرت فيها هذه الممارسات وفى المقدمة منها ألمانيا، ثم الدول التى امتد إليها الحكم النازى أثناء تلك الحرب، ولذلك فمساءلة إسرائيل بموجب هذه الاتفاقية هو طعنة أخلاقية كبرى لها، فهى متهمة بمواصلة نفس الممارسات التى خضع لها اليهود كضحايا فى عقود سابقة.
تضمن طلب حكومة جنوب إفريقيا أمرين أساسيين من المحكمة؛ أولا أن تأمر باتخاذ إجراءات احترازية لوقف الأعمال المسلحة التى تقوم بها إسرائيل فى غزة، وثانيهما أن تدين إسرائيل لارتكابها جريمة الإبادة الجماعية، والتى عرفتها الاتفاقية المذكورة بأنها جريمة يمكن أن تقع فى وقت الحرب أو وقت السلام، وأنها ترتكب بنية تدمير جماعة قومية، أو عرقية أو جنسية أو دينية ككل أو قسما منها. وقد عدد فريق جنوب إفريقيا أنواع الجرائم التى ارتكبتها إسرائيل فى حق الفلسطينيين والفلسطينيات فى غزة، والتى تشكل فى رأى الفريق جريمة إبادة جماعية، واستشهد الفريق باقتباسات من تصريحات المسئولين الإسرائيليين بل وأحاديث جنودهم التى تؤكد على توافر النية فى استئصال الشعب الفلسطينى، ودعم ذلك بشرائط فيديو من ممارسات الجنود الإسرائيليين.
وقد احتاط الفريق للاعتراضات التى قد تدفع بها إسرائيل، فقد أدان ما قامت به حماس فى غلاف غزة فى السابع من أكتوبر، ومضيفا أن ما قامت به حماس لا يمكن أن يكون مبررا سائغا لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية فى حق الفلسطينيين والفلسطينيات، فكل الدول ملتزمة ــ بموجب هذه الاتفاقية ــ بالامتناع عن ممارسة هذه الجريمة. وشدد على أن قيام إسرائيل بهذه الأعمال واعتراض جنوب إفريقيا عليها فى المحافل الدولية يشكل نزاعا على محكمة العدل الدولية الفصل فيه، وأضاف أن القصد من طلب الإجراءات الاحترازية هو الحيلولة دون استمرار إسرائيل فى هذه الممارسات التى تنطوى على تهديد خطير لوجود الشعب الفلسطينى وحقوقه الأساسية بما فى ذلك الحق فى الحياة، مؤكدا أن جريمة الإبادة الجماعية سابقة على هذا التاريخ، وتعود إلى إنشاء دولة إسرائيل، كما أكد الفريق على المخاطر التى تنطوى على عدم الأمر بهذه الإجراءات الاحترازية، وهى تهديد الحقوق الأساسية للفلسطينيين والفلسطينيات.
استجابت إسرائيل لدعوة محكمة العدل للمثول أمامها لإبداء الرأى فى مطالب فريق جنوب إفريقيا، للخشية من صدور حكم من المحكمة أولا بوقف الأعمال المسلحة فى غزة، ثم تثبيت تهمة الإبادة الجماعية عليها، ولذلك كله آثار معنوية ودبلوماسية خطيرة تزيد تعقيد موقفها مع الرأى العام العالمى ومع أغلبية الدول أعضاء الأمم المتحدة حتى ولو لم تلتزم بحكم المحكمة. ولذلك شكلت حكومتها فريقا عالى المستوى، فالذى يمثلها أمام المحكمة هو المحامى البريطانى، مالكولم شو، وهو واحد من أبرز خبراء القانون الدولى لحقوق الإنسان على مستوى العالم.
طبعا استمع الفريق الإسرائيلى لمطالب فريق جنوب إفريقيا وقرأ المذكرة التى أعدها فى هذا الخصوص، وبنى دفاعه على أن من ارتكب جريمة الإبادة الجماعية هو حماس بحق اليهود، وخصوصا ما قامت به فى السابع من أكتوبر، وأنه لا يوجد نزاع بين إسرائيل وجنوب إفريقيا لأن الدبلوماسية الإسرائيلية بذلت جهودا للالتقاء بممثلى جنوب إفريقيا قبل تاريخ المحاكمة، ولم تستجب جنوب إفريقيا لهذه الجهود، واستدرك أنه من الصحيح أن القوات الإسرائيلية تقوم بأعمال حربية فى غزة، ولكن لا يمكن وصف أى أعمال حربية بأنها تشكل إبادة جماعية، ولكنها ضرورية فى ظل قيام إسرائيل بالدفاع عن النفس فى مواجهة هجمات حماس، واعترف الفريق بمعاناة المدنيين، ولكن الذى يلام فى ذلك ــ فى رأيه ــ هو حماس التى يستخدم مقاتلوها سكان غزة كدرع بشرى، ولا يعفون من ذلك المستشفيات والمدارس ودور العبادة، وقدم صورا وشرائط فيديو تؤكد ذلك من وجهة نظره، واستبعد الفريق الإسرائيلى أن تشكل تصريحات الساسة الإسرائيليين دليلا على توافر القصد فى ممارسة الإبادة الجماعية معللا ذلك بأنها تصريحات سياسية فى نظام سياسى تعددى، ولكنه شدد على أن قرارات مجلس الحرب المصغر هى التى تمثل سياسة الحكومة الإسرائيلية، وليس فى هذه القرارات ما يدعو للإبادة الجماعية، وحذر الفريق الإسرائيلى المحكمة من إصدار قرار بإجراءات احترازية، لأن مثل هذا القرار إذا صدر على النحو الذى تريده حكومة جنوب إفريقيا سوف يحرم إسرائيل من ممارسة حق الدفاع عن النفس، بل إن أى إجراءات احترازية إذا صدرت يجب أن تكون متوازنة، فلإسرائيل حق فى الدفاع عن النفس كما أن للفلسطينيين والفلسطينيات الحق فى الحياة، وأردف الفريق الإسرائيلى فى وصف الإجراءات التى قامت بها إسرائيل لحماية السكان المدنيين الفلسطينيين، بما فى ذلك إعلامهم بمناطق العمليات العسكرية والمناطق الآمنة وإبلاغهم بذلك من خلال رسائل نصية ومنشورات، وتسهيل وصول المساعدات الدولية لهم، كما أنه لا داعى فى رأيه لأى إجراءات احترازية، فقد انخفضت وفقا للفريق حدة الأعمال العسكرية، وسحبت إسرائيل خمس لواءات من شمال غزة. ولذلك أنهى الفريق الإسرائيلى مرافعته بدعوة المحكمة لرفض الأمر بالإجراءات الاحترازية، وشطب دعوى جنوب إفريقيا من سجل المحكمة.
وماذا بعد؟
سوف يجتمع قضاة المحكمة بعد أيام للنظر فى طلب جنوب إفريقيا وردود إسرائيل عليه، وسوف ينضم إلى قضاتها الخمسة عشر، ومنهم ثلاثة من العرب، قاضيان اختار كلا منهما الطرفان المتنازعان. اختارت جنوب إفريقيا ديكجانج موسينيكى نائب المدعى العام فيها، واختارت إسرائيل أهارون باراك الرئيس السابق لمحكمتها العليا والمعروف بمواقفه تأييدا لبناء سور الفصل العنصرى بين غزة وإسرائيل. ولاشك أن الفريق المتميز الذى اختارته جنوب إفريقيا يملك من العلم والخبرة والحس الإنسانى ما يمكنه من الرد على دفوع إسرائيل، فالقول مثلا بأنه لا يوجد نزاع بين إسرائيل وجنوب إفريقيا مردود عليه بأن هذا النزاع قائم بالفعل بين إسرائيل وأغلبية الدول أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة ونمط تصويتهما المتعارض فى كل القرارات الخاصة بهجوم إسرائيل على قطاع غزة، كما أن ممارسات إسرائيل فى حصارها لغزة برا وبحرا وجوا ثم عرقلتها لوصول المساعدات وتدميرها للبنية التحتية فى غزة بما فى ذلك تسوية شمال غزة بالأرض هى كلها دلائل عملية على ممارستها بالفعل للإبادة الجماعية للفلسطينيين، كما أن الحاجة للإجراءات الاحترازية مطلوبة على ضوء إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير دفاعها بأن العمليات العسكرية سوف تمتد شهورا بل وسنوات، فى الوقت الذى يشهد كبار المسئولين فى الأمم المتحدة بأنه لم يعد هناك مكان آمن فى غزة، أو بأن غزة صارت مقبرة للأطفال.
فلننتظرْ وَنَرَ ماذا سيكون عليه قرار المحكمة، والذى سيكون دليلا على مدى قدرة المؤسسة القضائية الأعلى فى النظام الدولى على فرض احترام حكم القانون فى وجه صلف وتجبر كل من الولايات المتحدة أحد أقطاب النظام الدولى وربيبتها إسرائيل.