عندما قام محمد على باشا بإيفاد مجموعات من الدارسين المصريين إلى أوروبا لتحصيل العلم واكتساب الخبرات، كان تلك خطوة عظيمة ورائدة، لكنها لم تكتمل وأجهضت فى خضم الأحداث والوقائع، لكن تلك التجربة بقيت نموذجا اقتدت به وسارت على نهجه دول عدة من بينها اليابان، التى سبقتها مصر بأكثر من خمسين عاما فى سعيها للقيام والأخذ بأسباب التقدم العلمى والتقنى.
فى اليابان وفى عهد الإمبراطور المستنير «ميجى» تم التركيز على اختيار دقيق لدولة الإيفاد ومدى تقدمها فى المجال العلمى المنشود، فاختيرت بريطانيا لدراسة الهندسة الميكانيكية وإدارة البنوك والشركات، وصناعة الحديد والصلب وبناء السفن، والولايات المتحدة لدراسة الهندسة الصناعية وهندسة المناجم والتعدين، وفرنسا لدراسة القانون والنظم الضريبية والإدارة الحكومية والعلوم السياسية، وألمانيا لدراسة الكيمياء والفيزياء والصيدلة والطب والهندسة الصناعية، وهولندا لهندسة المياه والجسور والسدود والميكانيكا، وفى العلوم العسكرية اختيرت ألمانيا للدراسة العسكرية واستراتيجيات وتكتيكات الحروب البرية، بينما اختيرت بريطانيا والولايات المتحدة للدراسات البحرية العسكرية والعلوم الملاحية.
كان ذلك النظام دقيقا وصارما، وكانت الروح المعنوية للدارسين اليابانيين هى خليط ما بين الروح العلمية والروح القتالية فى تحصيل العلم والمعارف والخبرات، وما كتبه الدارس تاكيو أوساهيرا هو معبر عن تلك الروح، فقد كان تاكيو أوساهيرا مبعوثا من قبل الحكومة اليابانية للدراسة فى ألمانيا، وكتب فى مذكراته:
لو أننى اتبعت نصيحة أستاذى الألمانى فى جامعة هامبورج لما وصلت إلى شىء، كانت بلادى اليابان قد أرسلتنى لأدرس علم الميكانيكا، وكنت أحلم بأن أتعلم صناعة محرك صغير، وكنت أعرف أن لكل صناعة نموذجا أو موديلا وهو أساس عملية التصنيع، فإذا تمكنت من تصنيعه أكون قد وضعت يدى على جوهر هذه الصناعة، لكن الأساتذة بدلا من أن يأخذونى إلى أحد مراكز التدريب العملى، أخذوا يقدمون لى الكتب لأقرأها، فقرأت وعرفت كل نظريات الميكانيكا، ولكننى ظللت أمام المحرك وكأننى أقف أمام لغز لا يحل.
وذات يوم قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، فذهبت ووجدت محركا صغيرا قوة حصانين، كان الوقت بداية الشهر وكان معى راتب البعثة كاملا، وكان ثمن المحرك يعادل تقريبا راتبى بالكامل فلم أتردد وأشتريته، واشتريت المحرك وحملته بوزنه الثقيل طوال الطريق إلى محل إقامتى، وفى حجرتى وضعت المحرك على الطاولة وجعلت أنظر إليه وأنا أحدث نفسى قائلا: هذا إذن هو سر قوة أوروبا، فلو أمكننى أن أصنع محركا مثله لغيرت مجرى تاريخ اليابان.
ويسترسل الدارس اليابانى: وقتها جالت بعقلى فكرة أن هذا المحرك يتألف من قطع مغناطيس وأسلاك وتروس، فلو استطعت تفكيك أجزائه وإعادة تركيبها وتشغيله، أكون بذلك قد خطوت خطوة كبيرة للتوصل إلى سر «نموذج» الصناعة الأوروبية.
فأخذت أبحث عن الرسوم الخاصة بالمحركات، وأعددت أوراقى وأحضرت صندوق أدوات العمل، وبدأت برسم شكل المحرك، ثم أخذت فى تفكيكه، وكلما فككت قطعة كنت أرسمها على الورق بدقة وأعطيها رقما، وتدريجيا فككت المحرك بكامله ثم أعدت تركيبه وقمت بتشغيله فاشتغل، عندئذ كاد قلبى يتوقف من الفرح، واستغرقت فى ذلك ثلاثة أيام كنت أتناول فى اليوم وجبة واحدة ولا أحظى إلا بالقليل من النوم، لقد كنت على مذهب «زن» وهو مذهب يقدس العمل ويعتبر أن كل عمل نافع هو كالصلاة.
فى اليوم التالى أخبرت رئيس البعثة الذى استحسن ما فعلت وقال لى إنه سيحضر محركا متعطلا، وعلى اكتشاف موضع العطل وإصلاحه، فنجحت فى ذلك واستغرق الأمر منى عدة أيام، حيث كانت ثلاثة من أجزاء المحرك المتآكلة فقمت يدويا بتصنيع مثيل لها باستخدام أدواتى البسيطة وأحللتها محل القطع المتآكلة.
ثم طلب منى رئيس البعثة أن أصنع قطع المحرك بنفسى وأقوم بتركيبها معا لتكوين المحرك، ولتحقيق ذلك التحقت كعامل بمصانع صهر الحديد ومسابك النحاس والألومنيوم، وبدلا من إعداد رسالة الدكتوراه تحولت إلى عامل بسيط يرتدى زى عمل أزرق اللون، وأقف منتبها إلى جانب عامل صهر المعادن، الذى كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم حتى أننى كنت أخدمه وقت تناول الطعام، بالرغم من أننى من أسرة من الساموراى، لكننى وقتذاك كنت أخدم اليابان ومن أجل بلادى يهون كل شىء.
واستمررت فى هذا العمل والتدريب طوال ثمانى سنوات كاملة كنت أعمل خلالها ما بين عشرة إلى خمس عشرة ساعة كل يوم، ولما سمع الإمبراطور بما أقوم به أرسل لى من ماله الخاص ما يعادل خمس آلاف قطعة ذهبية اشتريت بها أدوات وآلات مصنع محركات كامل، وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد نفدت بالكامل، فوضعت راتبى وكل مدخراتى لتغطية نفقات الشحن، وعندما وصلت إلى ناجازاكى قيل لى أن الإمبراطور يطلبنى لمقابلته، فاعتذرت وأخبرتهم أننى لن أستحق شرف مقابلته إلا إذا استطعت إنشاء مصنع محركات كامل، واستغرق ذلك منى تسع سنوات كاملة.
بعدها وفى أحد الأيام أعددت مع مساعدى عشرة محركات صنعتها فى اليابان بالكامل، وحملناها إلى القصر الإمبراطورى، وقمنا فى إحدى القاعات بإعداد المحركات للتشغيل، ووصل الإمبراطور إلى القاعة وكان صوت المحركات عاليا، فابتسم الإمبراطور قائلا هذه أعذب موسيقى سمعتها على الإطلاق، هذا صوت محركات يابانية خالصة.
هكذا ملكنا «النموذج» وهو سر قوة الغرب ونقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، وبعد ذلك ذهبت إلى المعبد للصلاة، ولاحقا غفوت عشر ساعات كاملة بعمق للمرة الأولى طوال سبعة عشر عاما.
• • •
هذه الرواية من ذلك الدارس اليابانى بقدر من تحمل من معانٍ وقيم، فإنها تحمل أيضا علامات استفهام وتساؤلات تدور فى ذهن قارئها، عن بلادنا وحاضرها ومستقبلها، عن الصناعة باعتبارها المحرك الحقيقى للتقدم فى مختلف المجالات والأصعدة، وهى القطاع الأهم والأعظم المحدد لتقدم الأمم وقوة الدول.
أدرك هذا جيدا محمد على باشا فعمل بموجبه، وكذلك الاقتصادى المصرى العظيم محمد طلعت حرب عندما أسس المنظومة التاريخية لبنك مصر وشركاته فى تجربة أسطورية، وسط بيئة اقتصادية عاتية غير مؤاتية كانت فيها البنوك والشركات الأوروبية تهيمن على الاقتصاد المصرى وتوجهه لمصالحها ومصالح دولها.
وعلى ذات النهج سار الرئيس عبدالناصر عندما أسس قلاع الصناعة المصرية فى كافة المجالات من الحديد والصلب إلى الغزل والنسيج وتجميع السيارات، وقتها وبدرجة كبيرة كانت مصر تأكل مما تزرع وترتدى مما تصنع، وكانت تلك القلاع الصناعية ركائز للاقتصاد المصرى، وعونا للميزان التجارى الدولى، قبل أن تعصف بها رياح الانفتاح الاقتصادى العشوائى، وقبل أن تستسلم لعواصف الخصخصة الهوجاء.
اليوم هناك أمل كبير فى بعث وإحياء الصناعة المصرية من جديد، فالدولة المصرية تدرك ذلك وتؤمن به، لكن المسألة ليست سهلة، وإقامة وتشغيل المصانع عملية صعبة ومعقدة وباهظة التكلفة، ورغم المتغيرات العالمية غير المواتية والمصاعب الاقتصادية لكافة الدول، إلا أن مصر تتحرك وتتقدم، المحلة الكبرى يقام بها أكبر مصنع للغزل والنسيج فى العالم، بورسعيد يقام بها أكبر مصنع للإطارات فى الشرق الأوسط، منطقة قناة السويس والمنشآت الصناعية المصرية الصينية والروسية.
جهود عظيمة تستوجب أهمية صياغة استراتيجية مصرية وطنية لتوطين الصناعة، استراتيجية لا تتغير بتغير الوزراء والحكومات، استراتيجية شاملة تعمل بموجبها كافة الوزارات والجهات لسنوات طويلة، استراتيجية واقعية بأهداف طموحة، التصنيع هو المحرك الحقيقى للتقدم، المحرك الذى نصممه بعقولنا ونصنعه بأيدينا.