مررت أمامها بعدد مرات دخولى غرفة مكتبى على امتداد عقود. أمر عليها مرات خلال النهار ولا أتوقف لحظة أمامها. هذا الصباح استثناء. اليوم توقفت أمامها منبهرا ولا أقول معجبا. إنها صورتى بالألوان داخل برواز بلون الذهب «المطفى». يصطف البرواز أمام الكتب بين تماثيل خشبية وحجرية ترمز إلى آلهة من التبت والهند وجنوب آسيا. وقفت هذا الصباح أمامه لثوانٍ معدودة وكأنى أرى الصورة لأول مرة. ارتحت للابتسامة التى رأيتها على وجهى فى الصورة قبل أن انتبه إلى حقيقة ما عرف عنى بين الأهل والمعارف. يتردد بين هؤلاء أن الصور التى التقطوها لى أو نشرت لى خلال الفترة من عمرى التى سبقت حاجز منتصف العمر لم أظهر فى واحدة منها مبتسما. أما بعد الحاجز ففى كل الصور التى ظهرت فيها منفردا أو بصحبة آخرين ازدان وجهى ببسمة من نوع أو آخر.
هناك مبالغة فيما تردد، وما يزال يتردد، بين الأقربين حول ندرة مرات حضور بسماتى فى مرحلة من حياتى ووفرة حضورها فى مرحلة أخرى. أظن أن فى تاريخى الشخصى ما يبرر المبالغة إن وجدت. لمن لم يعش معى عمرى كله أقول له، أنا عشت حياتين. أقصد عشت مرتين فى حياة واحدة. أقصد، قضيت النصف الأول من عمرى بمزاج وقضيت النصف الثانى بمزاج مختلف تماما فكأنى عشت النصف الأول بشكل وعشت النصف الثانى بشكل آخر.
أذكر أننى كطفل ثم كمراهق فى سن البلوغ ثم كمراهق يافع جسما وعقلا كنت إنسانا يغلب على تصرفاته سلوك الانطواء وعلى نفسيته طابع الحزن وعلى تفكيره نمط الجدية الشديدة. كنت مع أصحابى أهتم بحل مشكلاتهم، يستشيرنى ذووهم لمعرفة ما وراء انحراف الابن أو الابنة؛ سواء بالتشدد فى تنفيذ التعاليم أو بالتراخى فى تطبيقها. يطمئنون لانضباط سيرتى وحسن سلوكى. لم يدركوا كما لم أكن أدرك أنا نفسى أن ما يعتبرونه حسن سلوك كان فى عرف آخرين وفى عرفى الآن تخلفا فى استقبال العواطف وفى التعبير عنها. عشت النصف الأول من عمرى أغرق النفس فى التعاسة. أقضى وقت فراغى أسعى وراء المزيد منها. إن عشت ليلة سعيدا أضعت النهار التالى فى شكوك وظنون وحيرة فى فهم ما حدث بالليل وتبعاته. لا يمر النهار ونصل إلى الليل إلا وقد عوقبت على ما فعلت. أحاكم نفسى بنفسى أحاسبها وتحاسبنى. أغضب منها وتغضب منى. فى النهاية أقضى الساعات الأولى من الليل أتقلب فى فراشى، أخاصم النفس وأعذبها حتى ينهك الجسد والنفس معا. لم أعرف إلا بعد سنوات كثيرة أننى ظلمت نفسى عديد المرات. عرفت أن كثيرا من الأخطاء أو الخطايا التى اتهمت نفسى بارتكابها أصدرت فيها أحكاما ظالمة وفرضت على النفس عقوبات لا تستحقها. عرفت أيضا أننى حرمت نفسى من متع تأتى طبيعية ومنطقية فى سياق مرحلتى المراهقة والشباب وهى إن أتت فى مراحل أخرى استحقت التأنيب إن لم تستحق عقابا أشد. بعض عذرى إن أخطأت وأنا فى سن متقدمة هو أننى لم أسمح لنفسى فى سن المراهقة ومطلع الشباب بمزاولة حق ارتكاب الخطأ ببراءة وسماحة النفس والروح وبعيدا عن أساليب القمع الذاتى.
• • •
عدت بعد جولة مطولة فى صناديق وحقائب صور من الماضى، ماضٍ ما صار يعرف عندى وعند الأقربين بمرحلة ما قبل منتصف العمر. عدت لأقف ربما لأول مرة، أمام الصورة التى بداخل البرواز. شتان ما بين صور الماضى وهذه الصورة. استغربت نفسى فى صور الماضى. هل صحيح قضيت النصف الأول من عمرى دون بسمة تلامس شفتاى. كيف تحملت أن أرى نفسى بوجه عابس طوال السنين. لماذا تأخرت كل هذه المدة قبل أن أعلن تمردى على ما مضى وأقرر الاندماج فى تيار النضوج المبتسم. بدا لى لبعض الوقت وأنا أقلب صفحات ألبوم الصور القديمة لعائلة أبى أن العبوس كان من شيم الراغبين فى التقاط الصور لهم والمقبلين عليه. رأيت فيما أرى صورة جدتى لأبى وقد جلست على مقعد خشبى مرتفع وفى يدها اليمنى بندقية وعلى وجهها سمات من يعنى ما يفعل وما يقول. وجه لا يعرف المزاح أو الفكاهة أو التعاطف تكسوه مساحيق يبدو أنها كانت تصنع خصيصا لإبراز القسوة وإثارة الرهبة فى نفوس الصغار من الجنسين وربما الرجال أيضا. الغريب فى الأمر أن جدتى لأمى بدت دائما فى الصور النادرة التى وقعت فى حوزتى راضية. كانت فى الواقع مسيطرة مثل جدتى لأبى ولكن برضا وهنا وحنان، وإن بدون ابتسامة.
• • •
كعادتى وبينما كنت أنظر إلى صورتى داخل البرواز راح خيالى يسرح فى المستقبل. تخيلت بعضا من ذريتى يقف أمام هذا البرواز الذهبى متأملا فى تفاصيل الوجه الذى يطل عليه من داخله. يتأمل ويتساءل منشغلا بمحاولة حصر وتفسير جوانب فى شخصية الجد صاحب هذه الصورة الذى هو أنا. ثم يقارن هذه الجوانب بجوانب اكتشفها فى شخصيات الآخرين من العائلة نفسها وأصدقائهم ويخرج بتعميمات ونظريات. سوف يجد بين هذا البعض من الأحفاد وذرياتهم من يعرف قليلا عن الكتابة ليجلس ويسجل هذه الانطباعات ليخلص بقناعات تبرر له ولآخرين بعض صفاته وسلوكياته وطباعه، يعيدها إلى جدود وجدات وظروف عامة وخاصة وسياقات سياسية واقتصادية.
الصورة، أى صورة، مهما أبدع المصور ومهما استحسن واستخدم من تكنولوجيات هذا الفن العظيم، ومهما بذل صاحبها من جهد لتجميل الوجه وإخفاء العيوب وافتعال البسمة، تبقى الصورة جهدا ناقصا. ليس كل ما فى النفوس تصل إليه عين المصور. النفس عادة ما تحتاط لخصوصيتها من كاميرات المصورين محترفين كانوا أم هواة ومن نظرات الفضوليين وذوى المصلحة والمشفقين والمحبين بل وأصدق العشاق والمولعين.
• • •
فكرت أن أسأل من حولى عن من قرر أن يعلق على حوائط بيتى وفوق أرفف مكتبتى رسوما لشخصى بالألوان أو بقلم الفحم وصورا فوتوغرافية بعضها يحكى أشياء والبعض الآخر عنيد فى صمته أو ممل فى حذره. تعرف فورا إلى أى عصر فى عمرى تنتسب هذه الصورة وتلك. أهتم أحيانا بالصور مجاملة للضيف المهتم إن سأل واستفسر. يحدث كثيرا أن أعبر عن سعادة مختلطة بالفخر فى إجابة استفسار عن هوية رسام رسم لوحة بعينها. اللوحة تصورنى فى وضع كاتب يكتب والرسام ابنتى والعصر ينتمى إلى النصف الثانى من العمر.
• • •
علمتنى الصحافة أهمية الصورة ولكن ليس أى صورة، إنما الصورة التى تقول شيئا. كنت أقلب قبل أيام فى حقيبة عن وثيقة وأوراق. وجدت فى الحقيبة صورا بالمئات بعضها لم تلمسه يد ولا رأته عين منذ عشرات السنين. شدنى الحنين إلى مجموعة بعينها من الصور. كانت صورا عن رحلة صحفية وبحثية فى الصين. لاحظت أننى رحت أمر على أغلبها مرورا سريعا بدون انفعال يذكر ولكنى توقفت لأنظر مليا فى صور تصورنا جميعا أعضاء الرحلة أو تصور أحدنا وقد وقفنا شهودا فى قاعة محاضرات اتسعت لأكثر من خمسين شخصا، كلهم يرتدون بدلات زرقاء، كلهم بتصفيفة شعر واحدة، كلهم بسمات وأوصاف رجال ونساء دولة وأساتذة جامعات وفنانون وعلماء وقادة عسكريون، كلهم يجلسون القرفصاء، وكلهم يتناوبون النهوض لإلقاء اعتراف وجيز بخطأ أو معصية ارتكبها الواحد منهم فى حق الجماعة التى ينتمى إليها أو فى حق الشعب ثم تجرى مناقشة قصيرة حول الاعتراف وحجم الضرر الذى تسبب فيه الشخص. إحدى الصور التقطت لنا أعضاء الفريق الزائر وقد تأثر بعضنا وله مكانته الكبيرة فى مصر وفى الإعلام المصرى بشكل خاص فاختار جلسة القرفصاء احتراما للقاعة وحضورها المهيب. قضيت ساعة أو أكثر أقلب بسرعة فى صور هذه الزيارة لمعسكر التهذيب المعنوى والايديولوجى فى أحد ضواحى مدينة بكين فى زمن الرئيس ماو، باستثناء مجموعة صور كل واحدة منها توجز فى نظرة واحدة إليها مرحلة هامة فى تاريخ أمة من أعظم الأمم.
أحيانا تكون الصورة الواحدة شاهدا كافيا فى كتابة التاريخ.