المواقف والتصريحات الأمريكية الأخيرة بشأن قطاع غزة تحمل مؤشرات على أن إدارة الرئيس ترامب بدأت تعود تدريجيا إلى أرض الواقع، وتصبح أكثر عقلانية وبراجماتية فى تعاملها مع القضية، وتبتعد شيئا فشيئا عن مواقفها غير المنطقية والمتطرفة فى بعض الأحيان مثل السيطرة على القطاع وطرد وتهجير سكانه إلى الدول المجاورة.
فالرئيس دونالد ترامب قال خلال لقائه رئيس الوزراء الأيرلندى مايكل مارتن فى البيت الأبيض، يوم الخميس الماضى، إنه «لا أحد يريد طرد الفلسطينيين من غزة»، وذلك بعد إدلائه بالكثير من التصريحات فى الأسابيع الماضية، والتى أشار فيها إلى أن بلاده ستتولى السيطرة على قطاع غزة وستقوم بالتخلص من آثار الحرب وستخلق فرص عمل هناك بعد إخراج سكان القطاع إلى مناطق أخرى، مشددا على أن السيطرة الأمريكية على غزة ستكون طويلة الأمد وأن المشاريع الاقتصادية المزمع إجراؤها ستحول المنطقة إلى «ريفيرا» الشرق الأوسط على حد زعمه.
ليس هذا فقط، بل إن ترامب الذى طالما اتخذ هو وكبار المسئولين فى إدارته مواقف حادة ومتشددة تجاه حركة حماس وصلت إلى حد تهديدها بالجحيم والعواقب الوخيمة ما لم تطلق سراح المحتجزين الإسرائيليين الذين بحوزتها منذ هجوم السابع من أكتوبر قبل الماضى، فاجأ الجميع بالسماح للمبعوث الأمريكى الخاص بشئون الرهائن آدم بولر، بإجراء محادثات مع ممثلين للحركة فى العاصمة القطرية، تمحورت حول تحرير الرهائن الأمريكيين المتبقين فى غزة، بالإضافة إلى بحث اتفاق أوسع يفضى إلى إطلاق سراح جميع المحتجزين ويؤسس لوقف طويل الأمد لإطلاق النار.
وعلى الرغم من هذه الاتصالات المباشرة بين واشنطن و«حماس» تخالف السياسة الأمريكية التقليدية والممتدة منذ عقود، والتى تمنع إجراء أى اتصالات مباشرة مع كيانات تصنفها الولايات المتحدة بـ«الإرهابية»، إلا أن المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، أكدت فى تصريحات صحفية الأسبوع الماضى أن المبعوث الخاص المكلف بالتفاوض مع حركة حماس، لديه «تفويض» من الرئيس ترامب!
هذه التصريحات وتلك المواقف تمثل بلاشك تحولا لافتا فى السياسة الأمريكية لدى إدارة ترامب، لكن هذا التحول لم يأت من فراغ، وإنما تقف خلفه أسباب عدة، أهمها بلا شك الموقف العربى الرافض لفكرة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وهو ما تبدى فى القمة العربية الطارئة التى عقدت مؤخرا فى القاهرة، واعتمدت الخطة المصرية الهادفة إلى إعادة إعمار القطاع من دون تهجير سكانه، والتى رحبت بها الكثير من دول العالم مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، ورأت أنها توفر «مسارا واقعيا لإعادة إعمار القطاع»، كما أنها يمكن أن تأتى بـ«بتحسن سريع ودائم فى الظروف المعيشية الكارثية للفلسطينيين الذين يعيشون فى قطاع غزة» جراء الحرب.
كذلك يقف وراء التحول اللافت فى الموقف الأمريكي رغبة واشنطن الواضحة فى إثبات أن تحالفها الاستراتيجى مع إسرائيل، لا يعنى بالضرورة تماهيها مع كل ما تخطط أو تفكر فيه تل أبيب، خاصة وأن لدى الولايات المتحدة مصالح فى المنطقة، لا بد لها وأن تحافظ عليها، وهو ما تبدى بشكل كبير فى تصريحات المبعوث الأمريكى لشئون الرهائن آدم بولر مع شبكة «سى إن إن»، عندما قال تعليقًا على الأنباء التى تحدثت عن انزعاج إسرائيل من المحادثات المباشرة مع حركة حماس إنه يتفهم «الذعر والقلق» ولم يكن منزعجًا، مردفًا «فى نفس الوقت، نحن الولايات المتحدة، لسنا وكلاء لإسرائيل!».
الجملة الأخيرة من كلام بولر تعنى بشكل واضح تماما أن واشنطن تحاول إيجاد توازن يحفظ مصالحها المباشرة مع كافة الأطراف فى المنطقة، حتى لو كان ذلك على حساب التزاماتها التقليدية تجاه حليف تاريخى مثل إسرائيل، وأن دعمها الدائم للدولة العبرية، لا يفرض عليها السير ورائها مغمضة العينين فى مسارات مفتوحة بلا أفق، وبالتالى لابد من التواصل مع الجميع، حتى لا تنزلق المنطقة إلى مزيد من عدم الاستقرار والفوضى الأمنية.
على أى حال، هناك تغير ملحوظ فى الموقف الأمريكى، ينبغى على الدول العربية استغلاله والبناء عليه جيدا، عبر مواصلة التشاور مع واشنطن والتوصل إلى تفاهمات تحافظ على مصالحنا واستقرارنا وحقوقنا التاريخية المشروعة، لاسيما فى فلسطين المحتلة، وعدم السماح للمحتل الصهيونى بتنفيذ مخططه الرامى إلى إنهاء القضية من جذورها وتصفيتها وتهجير أصحابها إلى دول الجوار.