«اللامعقول» هو المصطلح العربى المستخدم للدلالة على «العبث» فيما يسمى فى اللغات الأوروبية «مسرح العبث». غاية الرئيس الأمريكى دونالد ترامب هى إثبات خطأ العنوان أعلاه. هو عازم على إثبات أن اقتراحه بإخلاء غزة من أصحابها الفلسطينيين وتهجيرهم إلى الأردن ومصر لا معقولية فيه ولا عبث، فالأردنيون والمصريون سينتهون إلى قبوله ولن يثيروا الدنيا ولا هم سيقعدونها. دليله على ذلك، الذى كرر أكثر من مرة، هو أن ثمة من قال إن غضب العرب سيكون شديدا إن هو اعترف بضم إسرائيل للقدس الشرقية ونقل السفارة الأمريكية إلى المدينة، وإن هو اعترف بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية، وهو فعل هذا وذاك فى فترة رئاسته الأولى ولم يغضب العرب ولا يحزنون. استمر العرب على علاقتهم به وفخّم بعضهم فيه ووطدوا صلاتهم بعائلته بل وكان أملهم أن يعود إلى السلطة. على العرب، وعلى مصر أولاً وتحديدا، إثبات خطأ تقدير الرئيس الأمريكى.
أستاذ نظرية العلاقات الدولية الأمريكى العتيد جون مرشهايمر حقق شهرة فى بلادنا فى السنة الأخيرة بتسجيلاته وحواراته على الشاشة العنكبوتية التى ندد فيها، بصفته الأستاذية وكمثقف عام وفقا لمفهوم المفكر الإيطالى أنطونيو جرامشى، بالحرب الإسرائيلية على غزة وبمجمل سياسة إسرائيل وبدعم الولايات المتحدة لها. مرشهايمر وزميل له نشرا منذ عام مضى كتابا عنوانه «كيف تفكر الدول». فحوى الكتاب أن الدول وكقاعدة عامة تفكر بشكل رشيد، وهو ساق أمثلةً على هذا الرشد من مواقف لدول وإمبراطوريات مختلفة من أزمات واجهتها، ومن استراتيجيات اتخذتها فى القرن العشرين، غير أنه لاحظ وجود استثناءات من هذا الرشد معطيا أمثلة عليها أيضا. يغيب الرشد عندما يكون الاستدلال خاطئا أو لما يتخذ صاحب القرار موقفه مستندا إلى تشبيه مغلوط ويعقد مقارنة بين أمرين ليس بينهما وجه للمقارنة. على مصر والعرب عموما أن يكشفوا فساد التشبيه الذى عقده الرئيس الأمريكى، وأن يبينوا أن سكوتهم فيما سبق لم يكن علامة رضا، وأن عدم رضاهم هذه المرة سيكون بمقاومة فكرته اللامعقولة.
المقاومة سيكون معناها أن السكوت على الاعتراف بضم إسرائيل للجولان وللقدس وعلى نقل السفارة الأمريكية إليها كان للظن بأن الولايات المتحدة يعوّل عليها مع ذلك للوصول إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، تنصف الشعب الفلسطينى ولو إنصافا جزئيا، وتسمح لشعوب الشرق الأوسط العربية وغير العربية بأن تعيش فى أجواء من الاستقرار والاطمئنان تمكنها من تعويض ما فاتها من تنمية وتقدم. أما تصفية القضية الفلسطينية بتهجير أهل غزة فهو لا يمكن أن يقابله ظن بأى حسن نية متبقية.
مقاومة الفكرة اللامعقولة للرئيس الأمريكى ممكنة وهى ستستفيد بمقاومات لأفكار أخرى صدرت عنه تخص دولاً عديدة بل وتتعلق بشئون داخلية فى الولايات المتحدة نفسها. الأستاذ مرشهايمر وزميله يضيفان فى كتابهما أن الدول تتبع نظاما للتفكير وأن المواقف أو الاستراتيجية الرشيدة لأى دولة هى التى تستند إلى نظرية معقولة وتكون نتيجة لمداولات مفتوحة لا قيد عليها تجرى بين المطلعين على موضوعها العارفين بأصله وتطوره وتفاصيله. كل الأخبار المتداولة تشير إلى أن الرئيس الأمريكى لم يجمع أى مختصين من الجامعات أو مراكز البحث أو وزارة الخارجية الأمريكية ولا حتى أعضاء حكومته أو يجرى أى مشاورات للتداول بشأن فكرته عن تهجير سكان غزة من الشعب الفلسطينى إلى مصر والأردن وتملك الولايات المتحدة للقطاع.
نشرت الصحافة أن العاملين مع الرئيس الأمريكى أنفسهم فوجئوا بفكرته. ودار أن أستاذا فى الاقتصاد فى إحدى جامعات واشنطن العاصمة هو الذى نشأت عنده الفكرة وأنه طورها فى الصيف الماضى حتى وصلت إلى الرئيس الأمريكى الذى أعجبته وأخذ يتأمل فيها بشكل خاص فى الأسبوع السابق على إطلاقه لها. هل هذا سبيل جاد للتصدى لمسألة سياسية نشأت منذ مائة وثلاثين عاما وازدادت تعقيدا بعد تعقيد من يومها، علاوةً على أنها أصبحت مركزيةً فى العلاقات الدولية فى النصف الثانى من القرن العشرين والربع الأول من القرن الحالى؟
بدون الخوض فى ماهية النظرية المعقولة عند مرشهايمر وزميله، يكفى للدلالة على عدم رشد فكرة الرئيس الأمريكى ولامعقوليتها أنها مبنية على استدلال فاسد ومقارنة فى غير محلها كما أنها لم تكن موضعا لأى نقاش أو مداولات لاختبار سلامتها.
•••
على هذه المساحة من «الشروق» الغراء أشرنا منذ أسبوعين إلى رفض بعض أقرب حلفاء الولايات المتحدة، بريطانيا وألمانيا وفرنسا، لفكرة الرئيس الأمريكى. حلقة الرفض اتسعت إلى حلفاء آخرين وغير حلفاء، ومستوى التعبير عن الرفض ارتفع. إسبانيا وأستراليا والدنمارك وتركيا من بين الحلفاء، والصين وروسيا والبرازيل من غير الحلفاء، ودول أخرى بالإضافة إلى هذه وتلك رفضت الفكرة اللامعقولة للرئيس الأمريكى. الرئيس الفرنسى تناول الفكرة فى مقابلة تلفزيونية مطولة وهو وإن لم ينطق بسخفها فقد بينه بتحليلها.
يزيد رفض الفكرة أهمية الخطاب المفصّل الذى وجهه 145 عضوا ديمقراطيا فى مجلس النواب الأمريكى إلى الرئيس ترامب مطالبين إياه بالتراجع عما قاله عن تهجير سكان قطاع غزة واستيلاء الولايات المتحدة على القطاع وتحويله إلى منتجع صيفى عالمى. أبرز الموقعون على الخطاب أن التهجير غير أخلاقى وأنه انتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة، كما أنه لا يضمن الأمن لإسرائيل. شدد كاتبو الخطاب على أن على الولايات المتحدة، بدلاً من مثل هذه الفكرة، أن تلعب دورا بناء فى حل النزاع الفلسطينى الإسرائيلى. الخطاب طويل وهو فنّد الفكرة من مختلف جوانبها، وأهم دلالاته أنه صادر عن ممثلين للشعب الأمريكى، كلهم أصدقاء لإسرائيل حريصون عليها. أعضاء مجلس النواب الموقعون على الخطاب بعيدون عن أن يمثلوا أغلبية فى مجلس النواب، والأغلبية منعقدة على أى حال للحزب الجمهورى، إلا أن تحركهم ينبئ بأن المجتمع السياسى الأمريكى لن يسكت على ما يظن أنه فى غير مصلحة بلاده. صحفى أمريكى حميم الصداقة لإسرائيل اعتبر فكرة الرئيس ترامب «أغبى» وأخطر مبادرة «للسلام» صدرت عن أى رئيس أمريكى.
سياسيا الفكرة فاشلة فى العالم أجمع، وبالقياس العلمى هى غير رشيدة. إثبات عدم رشد الفكرة يكون بإسقاطها بلا أى مقابل يدفع لهذا الإسقاط. أى مقابل يدفع هو بمثابة قيمة تمنح للفكرة وإقرار بأن لها من الوجاهة نصيبا. مثل هذه القيمة وهذا الإقرار يقوض الموقف العربى، وهو سيكون على حساب الشعب الفلسطينى، وعلى حساب مصر والأردن كذلك. على أنه ينبغى ألا يفوت المشروع العربى المضاد لفكرة الرئيس الأمريكى أن يقرن مقترحه لإعادة بناء غزة بصيغة مقبولة فلسطينيا لحكمها. ويا حبذا لو حصل المشروع على مساندة من أطراف أوروبية ودولية معتبرة.
شعار الرئيس ترامب هو «اجعل أمريكا عظيمة من جديد». فى سبيل تحويل شعاره إلى حقيقة، يتعالى الرئيس الأمريكى على حلفاء بلاده وأصدقائها ويتحرش بهم. يقطع المعونة الرسمية للتنمية عن البلدان النامية، وهى المعونة التى تفيد الولايات المتحدة بقدر ما تفيد المستفيدين بها إن لم تكن فائدتها لها أكبر. هذا فى ظنه ما يحقق العظمة. غير أنه فى حملته من أجل بلوغ مراده يتخذ إجراءات داخلية أيضا هى فى حقيقتها تفكك النظام الإدارى والسياسى الأمريكيين وستؤدى فى النهاية إلى عكس العظمة المنشودة. التساؤل مشروع عن مدى رشد إجراءات السياسة الداخلية التى اتخذها الرئيس الأمريكى الجديد القديم فى الأسابيع الثلاثة الأولى من فترة حكمه الثانية. المقاومة الداخلية المنظمة من قبل المجتمع المدنى مازالت محدودة، فمرةً أخرى هو لم يمض على رئاسته إلا ما يقل عن أربعة أسابيع. المقاومة الفعالة حتى الآن صدرت عن القضاء الذى علّق تنفيذ أمرى الرئيس ترامب التنفيذيين بوقف تمويل برامج اجتماعية، وبفرض قيود على تطبيق قانون اكتساب الجنسية الأمريكية بالولادة إذ اعتبره صارخا فى عدم دستوريته.
•••
مصر ومعها الأردن تقومان بالتعبئة ضد فكرة الرئيس ترامب. حتى إن هو رأى فى هذه التعبئة مواجهة له فلا بأس. فى الوقت الذى يقاوم فيه حلفاؤه وغير حلفائه تعاليه عليهم وتحرشه بهم فلا ينبغى بأى شكل من الأشكال أن يرى فى مصر والأردن الحلقة الأضعف التى يفرض إرادته، كلها أو بعضها، عليها.