مناسبة هذا المقال هو كتاب الدكتور ماجد عثمان، أستاذ الإحصاء بجامعة القاهرة ووزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الأسبق، الصادر منذ أشهر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، تحت عنوان «الإحصاء والسياسة: بين قوة الأدلة وسطوة السلطة». الحديث كثير عن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، أو الثقافة والسياسة، أو المجتمع والسياسة، ولكنك نادرًا ما تجد مناقشةً عمّا بين الإحصاء والسياسة من توتر وتفاعل. ربما يرجع الفارق إلى أن السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع مجالات للاجتماع البشرى، بينما الإحصاء منهج يُعتمد عليه لمراقبة هذا الاجتماع البشرى وكشف تطوّره وآلياته. المكتبة العالمية نفسها تناولت العلاقة بين الإحصاء وعلم السياسة واستخدام الإحصاءات فى السياسة، ولكن الكتب فيها شحيحة عن العلاقة بين الإحصاء والسياسة. يعرض هذا المقال ويعلّق على بعض من المحتوى الغزير للكتاب، ثم يناقش فى آخره شيئًا من المسائل التى يثيرها.
• • •
فى الكتاب فكرتان أساسيتان: الأولى هى أن المنهج الإحصائى هو الوحيد الصالح للتعامل مع حالات عدم اليقين، وله قواعد تحكمه، اتباعها واجب ليكون منهجًا علميًّا سليمًا يعزز الثقة به، ويدعمه فى مواجهة من يتجاهلونه أو يبغون التلاعب به. أما الثانية، فهى أن هذا المنهج الإحصائى معرّض لاعتبارات السياسة وأغراض من يمارسونها.
الكتاب يعرّف قارئه غير المتخصص بماهية المنهج الإحصائى وأدواته، وهو يتمحور حول مفهوم سلسلة القيمة الإحصائية، بمعنى المراحل التى يمر بها إنشاء قيمة الإحصاء واستخدامها. هذه المراحل ستّ، وهى: جمع البيانات، ووصف البيانات وتلخيصها، وتحليل البيانات، والإفصاح عن المعلومات وتداولها، واتخاذ القرارات، وصنع السياسات المبنية على القرائن.
البيانات وقائع ومدركات. أنت تجمع البيانات الإحصائية بخمس أدوات: التعدادات، والمسوح، واستطلاعات الرأى العام، والسجلات الإدارية، بالإضافة إلى مصادر غير تقليدية نشأت نتيجة للثورة المعاصرة فى تكنولوجيات الاتصالات.
• • •
التعدادات أكثر الأدوات الإحصائية شمولًا، فهى تحصى كل أفراد المجتمع أو وحداته، منها تعدادات السكان، وتعدادات المنشآت، والتعدادات الزراعية. المسوح الإحصائية تجمع بيانات أكثر تفصيلًا من التعدادات عن ظواهر اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية من عيّنة من السكان يقع اختيارها بأساليب المعاينة الاحتمالية، التى تعنى أن احتمالات اختيار كل أفراد المجتمع فى العيّنة متساوية. مسوح الدخل والإنفاق والاستهلاك، ومسوح القوى العاملة، أمثلة على مسوح الأسر المعيشية. استطلاعات الرأى العام تسمح بالتعرف على مدركات عيّنة من الأفراد بشأن قضية سياسية أو اجتماعية أو ثقافية ما، أو على اختياراتهم السياسية فى أى نوع من الانتخابات.
السجلات الإدارية هى الأداة الرابعة لجمع البيانات، ومنها سجلات نشأت لأغراض إحصائية، وسجلات أخرى أغراضها الأصلية غير إحصائية.وأخيرًا، الأدوات غير التقليدية لجمع البيانات مثل تلك التى تجمعها الآلات والأفراد، والتى تشكّل فى مجموعها ما صار يُعرف بـ«البيانات الضخمة».
المرحلة الثانية فى سلسلة القيمة الإحصائية هى وصف البيانات وتلخيصها، وهى تعنى تنظيم البيانات وعرضها على هيئة جداول أو رسوم بيانية، والهدف منها التشجيع على التفكير الإحصائى، بمعنى استخدام الإحصاءات فى فهم الظاهرة محل البحث.
إلى هنا، وسلسلة القيمة الإحصائية يغلب عليها الطابع التقنى. الدكتور ماجد عثمان يصرّح، عن حق، بأن السياسة تغلب على الإحصاء كلما تقدمنا فى مراحل سلسلة القيمة الإحصائية. ومع ذلك، فجمع البيانات ووصفها وتلخيصها ليسوا خلوًا من الأبعاد السياسية. تخصيص السلطة للموارد المالية الضرورية لجمع البيانات قرار سياسى. عدم جمع البيانات - مثل لبنان الذى يُمسك عن إجراء التعدادات منذ سنة 1932 - هو قرار سياسى أيضًا. لمراعاة القواعد الأخلاقية فى جمع البيانات ووصفها وتلخيصها بُعد سياسى كذلك. جوهر هذه القواعد هو احترام خصوصية الفرد المبحوث. إن لم يطمئن الفرد المبحوث إلى احترام خصوصيته، فهو ربما امتنع عن المشاركة فى أى مسح أو استطلاع بعد ذلك، فتضيع على متخذ القرار معلومات قيّمة من شأنها أن تساعده على أن يصيب فى قراره أو فى السياسة التى يصنعها.
• • •
نصيب السياسة يتصاعد بالوصول إلى المراحل الأربع التالية. تحليل البيانات يختلط فيه الإحصاء بالسياسة. إذا كان التحليل لبيانات صادرة عن مسح الدخل والإنفاق والاستهلاك، أو عن مسح القوى العاملة، أو المسح الصحى، فهو قد يوفر معلومات مزعجة عن مستويات الفقر أو البطالة أو سوء التغذية بين الأطفال. مجرد وجود هذه المعلومات ربما رتّب آثارًا سياسية خطيرة.
ولذلك تكتسى المرحلة الرابعة، وهى مرحلة الإفصاح عن المعلومات وتداولها، أهمية مضاعفة. الأصل هو أن البيانات تُجمع من أجل إتاحتها، ثم توظيفها لاتخاذ القرارات السليمة ورسم أفضل السياسات الممكنة. يقول الدكتور ماجد عثمان فى كتابه: «فى غيبة المعلومات، فإن النجاح لا يأتى إلا مصادفةً». قد تتجنب السلطات الإفصاح عن المعلومات، وإن لم تستطع، فهى قد تتلاعب بها، وبتعريفاتها، أو بالفترات الزمنية المسندة إليها. هذا يحدث فى البلدان غير الديمقراطية، وفى الديمقراطية أيضًا.
اتخاذ القرارات، وصنع السياسات المبنية على القرائن، هما المرحلتان الأخيرتان، الأعلى مرتبةً، والمقصودتان أصلًا بالإحصاء. الكتاب يستعرض عناصر عملية اتخاذ القرار اعتبارًا من توصيف المشكلة وحتى دراسة بدائل حلها والاختيار بينها. هذا الاستعراض مفيد لكل متخذ للقرارات. وفى الكتاب أمثلة على محددات اتخاذ القرار، واستخدام المعلومات فى عملية اتخاذه. المرحلة السادسة والأخيرة لا تقتصر على صنع السياسات المبنية على القرائن، وإنما تشمل أيضًا متابعة تطبيق هذه السياسات، ثم تقويم آثارها. الأساليب الإحصائية والمعلومات تُوظف لصوغ مجموعة الإجراءات المشكلة لسياسةٍ ما، ولمتابعتها وتقويمها.
• • •
ضيق المساحة لا يسمح بعرض كل المحتوى الثرى للكتاب. فيما تبقى من المقال نكتفى بالإشارة إلى عدد من المسائل الهامة التى يثيرها، ومناقشة بعضها.
أول هذه المسائل هو أن الدكتور ماجد عثمان يعتبر أن السلطات السياسية دائمًا ما تريد بيانات، ولكنها - فى البلدان غير الديمقراطية - تريدها لنفسها، تطلع عليها وحدها. هنا يثور التساؤل عن ماهية هذه البيانات التى تريدها السلطة لنفسها، وهل هى تبحث بالضرورة عن بيانات تُنتج باتباع المنهج الإحصائى. يرتبط بهذه المسألة تساؤل آخر: هل السلطات - فى البلدان الديمقراطية وغير الديمقراطية معًا - دائمًا ما تصوغ السياسات مستندةً إلى القرائن؟ انظر إلى السياسات المناهضة للهجرة فى هذا البلد الديمقراطى المتقدم، الذى يحتاج النشاط الاقتصادى فيه إلى المهاجرين، وإلى ذلك البلد غير الديمقراطى الذى يتجاهل القرائن، فيخلط بين السياسات المؤدية إلى التنمية وتلك التى يغلب عليها الطابع الاستعراضى.
مسألة ثانية هى اختلاف السرديات التى تُقدَّم بها نفس المعلومة، كأن يُعتبر معدل للبطالة مرتفعًا يبلغ 22 فى المائة، أو أنه يمثل نجاحًا للسياسات الاقتصادية حيث انخفض عن مستواه فى السنة السابقة الذى كان 30 فى المائة.
مسألة ثالثة تتخلل الكتاب هى ضرورة الحوكمة الرشيدة للنظام الإحصائى، وهو مجموع المؤسسات العامة والخاصة المنتجة للبيانات، ومستخدميها، بالإضافة إلى القوانين واللوائح المنظمة لإنتاج البيانات وتبادلها وتحليلها والإفصاح عنها. المكتب الوطنى للإحصاء فى أى بلد، وهو فى مصر مثلاً الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء.
• • •
فى رأى الكتاب، الحوكمة الرشيدة للنظام الإحصائى واستقلاليته مرتبطتان بالحوكمة الديمقراطية للنظام السياسى، وإن لم يكن ذلك مضمونًا.
الكتاب يرجع مرارًا إلى النظام الإحصائى الدولى، وفى القلب منه اللجنة الإحصائية التابعة للمجلس الاقتصادى والاجتماعى، وإدارة الإحصاء فى الأمم المتحدة. وهو يستند فى مقاربته الإحصائية إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المعتمد فى دورتها الأولى فى سنة 1946 بشأن حرية المعلومات، وإلى العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، وإلى قواعد الإحصاء وإصداراته وتعريفاته الرامية إلى عقد المقارنات الدولية، وهى إصدارات ومقارنات كثيرًا ما تثير حفيظة الدول الأعضاء ورفضها.
أما استطلاعات الرأى، فوظيفتها تقتصر على رصد الواقع ومحاولة تفسير تعقيداته فى لحظة جمع البيانات. مثال على ذلك نسب تأييد الناخبين لمرشحين فى سباق انتخابى ما. أما التنبؤ بنتيجة الانتخابات، فليس من وظائف الاستطلاعات، وإنما قد يضطلع به المحللون السياسيون. الخلط فى الوظائف من أسباب التشكيك فى نتائج استطلاعات الرأي، وإن كانت هذه الاستطلاعات تواجه تحديًا آخر فى البلدان غير الديمقراطية، هو تحدى تقييد الحريات الذى يؤدى بالأفراد إلى إخفاء آرائهم، أو التعبير عن آراء لا تتفق ومواقفهم الحقيقية.
• • •
أخيرًا، يحرص الدكتور ماجد عثمان على التشديد على أنه «لا يمكن الوصول إلى مقياس مثالى لظاهرة معقدة»، وإن كان ذلك لا ينبغى أن يثنى المجتمع الإحصائى عن «محاولة الوصول إلى مقياس تقريبى قدر الإمكان»، وهو يعود إلى تأكيد ذلك إذ يقرّر أن تدفق الإحصاءات الصادقة يسمح «باتخاذ القرارات الأقرب إلى الصواب». الإحصاء ضرورة. لكن نزاهة الباحث وجديته تجعلانه يذكّر القارئ مرة بعد أخرى أنه لا يقين فيه. الإحصاء علمٌ، واليقين نفى للعلم.
فى كتاب الدكتور ماجد عثمان أكثر بمراحل مما ورد فى هذا العرض محدود المساحة. صانعو السياسات ومنفذوها، وأصحاب العمل، والتنفيذيون فى القطاع الخاص، والناشطون فى المجتمعات المدنية، والباحثون فى العلوم الاجتماعية، مدعوون إلى قراءته. هم سيجدون فى الكتاب فوائد جمّة لهم.
أستاذ الأبحاث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة