الدولار في مهب الريح.. هل تهديد مكانة أم مكسب خفي؟ - قضايا اقتصادية - بوابة الشروق
الأربعاء 16 يوليه 2025 2:50 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

الدولار في مهب الريح.. هل تهديد مكانة أم مكسب خفي؟

نشر فى : الثلاثاء 15 يوليه 2025 - 9:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 15 يوليه 2025 - 9:00 م

شهد الدولار الأمريكى تراجعًا حادًا وغير مسبوق خلال النصف الأول من عام 2025، مسجلًا أسوأ أداء نصف سنوى له؛ فقد انخفض مؤشر الدولار الأمريكى بنحو 10.8% منذ بداية العام، وهو تراجع لافت يقترب من الانخفاض الذى بلغه فى النصف الأول من عام 1973 والذى بلغ 14.8%. هذا التدهور فى قيمة الدولار لا يُعد مجرد تقلب عابر فى سوق العملات، بل هو انعكاس لتحديات عميقة تعصف بالاقتصاد العالمى. 

هذا الانزلاق فى قيمة الدولار قد يعيد للأذهان مفهوم «حرب العملات»؛ حيث تسعى الدول إلى التنافس على قيمة عملاتها لتحقيق أهداف اقتصادية معينة، وغالبًا ما يكون ذلك على حساب الشركاء التجاريين فى سياسات تُعرف بـ«إفقار الجار». فهل تُشير هذه التطورات إلى مرحلة جديدة فى صراع القوى الاقتصادية العالمية، حيث يُصبح سعر الصرف ساحة معركة رئيسية؟ وما هى التداعيات المحتملة لهذا التراجع على هيمنة الدولار ومستقبل النظام المالى العالمى؟ هذه الأسئلة تفتح الباب أمام تحليل أعمق لديناميكيات حروب العملات وتأثيراتها المتوقعة.

أولًا- التاريخ والتداعيات لحرب العملات:

تُعرف حروب العملات بأنها سباق محموم بين الدول لتخفيض قيمة عملاتها المحلية، بهدف تعزيز القدرة التنافسية لصادراتها فى الأسواق العالمية. يُمكن القول إنها تمثل جانبًا خفيًا من التنافس الاقتصادى؛ حيث تستخدم الدول سعر الصرف كأداة لتحقيق مكاسب تجارية. ظهر هذا المصطلح لأول مرة بشكل صريح فى عام 2010 على لسان وزير المالية البرازيلى جويدو مانتيجا، الذى اتهم الاقتصادات الكبرى بالانخراط فى هذه الممارسات على حساب الدول الأقل قوة. كما تُعد سياسات إفقار الجار (Beggar-thy-neighbor policies) أحد الأوجه السلبية لحروب العملات؛ تشير هذه السياسات إلى الإجراءات الاقتصادية التى تتخذها دولة ما لتحقيق مكاسب على حساب دول أخرى، دون النظر إلى الآثار السلبية التى قد تنجم عنها على الصعيد العالمى. فى سياق حروب العملات، ويمكن بيان تاريخ حروب العملات عبر المراحل التاريخية المختلفة كالآتى:

    •   حروب العملات فى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى (عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى): سياسات «إفقار الجار»

يعود تاريخ حروب العملات إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى؛ حيث مثلت تلك الفترة مثالًا كلاسيكيًا لهذه الظاهرة الاقتصادية المدمرة. فى خضم أزمة الكساد الكبير التى عصفت بأوروبا، تخلّت العديد من البلدان عن نظام الغطاء الذهبى ولجأت بدلًا من ذلك إلى خفض قيمة عملاتها بشكل متعمد فى محاولة يائسة لتحفيز اقتصاداتها المتراجعة وتعزيز صادراتها. على الرغم من أن هذا الإجراء قد يبدو حلًا فرديًا، إلا أن آثاره كانت وخيمة، فقد أدى هذا التخفيض التنافسى للعملات إلى ارتفاعات كبيرة فى التضخم المستورد وتقلص دراماتيكى فى التجارة العالمية، مما عمق الركود الاقتصادى.

2-فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1944-1971): استقرار بريتون وودز وانهياره

بعد فوضى حروب العملات فى الثلاثينات، دخل العالم فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتى تميزت باستقرار نسبى بفضل تطبيق نظام بريتون وودز الذى أُنشئ عام 1944. كان هذا النظام يهدف إلى تحقيق الاستقرار النقدى الدولى من خلال ربط معظم العملات بالدولار الأمريكى، الذى كان بدوره مرتبطًا بالذهب بسعر ثابت. غير أن هذا الاستقرار لم يدم طويلًا، ففى عام 1971، شهد العالم انهيار نظام بريتون وودز، متزامنًا مع ما يعرف بـ«صدمة نيكسون»، حيث أنهى الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون قابلية تحويل الدولار إلى ذهب. أدى هذا القرار إلى تحول تدريجى نحو نظام أسعار الصرف العائمة، حيث تحدد قوى السوق قيمة العملات.

3-حروب العملات فى التاريخ الاقتصادى الحديث (ما بعد 1971 وحتى الآن): التلاعب بالعملة والتيسير الكمى

فى التاريخ الاقتصادى الحديث، وبعد التحول نحو نظام أسعار الصرف العائمة وظهور قوى اقتصادية كبرى جديدة والأزمات المالية الحديثة، عادت حروب العملات إلى الواجهة بشكل مختلف وأكثر تعقيدًا. تتسم هذه المرحلة بآليات متعددة، منها «التلاعب المباشر» حيث تتهم دول معينة (مثل الصين) بالتلاعب بقيمة عملتها (اليوان) لإبقائها منخفضة بشكل مصطنع ودعم صادراتها. شكل آخر هو «التيسير الكمى (QE)»؛ حيث لجأت العديد من البنوك المركزية الكبرى بعد الأزمة المالية العالمية 2008 إلى هذه السياسات لم يكن هدفها المباشر تخفيض العملة فقط، إلا أنها أدت إلى خفض قيمتها بشكل غير مباشر وأثارت اتهامات متبادلة بشأن «تخفيض قيمة العملة من أجل تحقيق التنافسية». وقد تفاقمت هذه التوترات لتصل إلى ذروتها فى «الحرب التجارية» عام 2018 بين الولايات المتحدة والصين.

ثانيا: أسباب ضعف الدولار.. منظور ترامب وتأثيرات المخاوف الاقتصادية:

يمكن تفسير ضعف الدولار الأمريكى من منظورين رئيسيين؛ الأول يتماشى مع التوجهات المعلنة للرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، والثانى يرتبط بالمخاوف الاقتصادية والسياسة النقدية.

1- منظور أجندة ترامب التجارية: يتوافق ضعف الدولار مع التوجهات المعلنة للرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب لزيادة الصادرات الأمريكية وتقليل العجز التجارى. فمن منظور أجندته الاقتصادية، يُعد خفض قيمة الدولار أداة فعالة لتحقيق هذا الهدف. تقوم هذه الاستراتيجية على عدة اعتبارات اقتصادية رئيسية؛ فعندما تنخفض قيمة العملة الأمريكية، تصبح السلع والخدمات الأمريكية أكثر جاذبية وتنافسية للمشترين الأجانب، مما يؤدى إلى زيادة حجم الصادرات وتعزيز موقع المنتجات الأمريكية فى الأسواق الدولية. فى المقابل، يسهم انخفاض قيمة الدولار فى رفع تكلفة السلع المستوردة، وهو ما يشجع المستهلكين الأمريكيين على تفضيل المنتجات المحلية، وبالتالى يقلل من الواردات ويساعد فى تقليص العجز التجارى.

2- تأثيرات المخاوف الاقتصادية والسياسة النقدية: على الرغم من التفسيرات المتعلقة بالسياسة التجارية، يتجه بعض المحللين إلى تفسير الانخفاض فى قيمة الدولار إلى المخاوف بشأن السياسة المالية الأمريكية. فالسياسات الرامية إلى التوسع فى الإنفاق الحكومى وتخفيضات الضرائب قد تؤدى إلى زيادة كبيرة فى العجز المالى، مما يثير قلق المستثمرين ويضع ضغوطًا انكماشية على الدولار.

ثالثا- تداعيات انخفاض الدولار فى عام 2025.. أبرز الرابحين والخاسرين:

فى مواجهة ضعف الدولار الأمريكى الذى قد يشهده عام 2025، من المرجح أن تتخذ الدول حول العالم استراتيجيات متنوعة، مدفوعة بمصالحها الاقتصادية الوطنية ومكانتها فى النظام العالمي. ستكون هناك أطراف رابحة وأخرى تواجه تحديات بحسب هيكلها الاقتصادى.

الرابحون من ضعف الدولار؛ بالنسبة للاقتصادات الصناعية الكبرى والمنافسة مثل منطقة اليورو واليابان والمملكة المتحدة، سيُعد ضعف الدولار فرصة سانحة. ستصبح صادرات هذه الدول أقل تكلفة وأكثر جاذبية فى الأسواق الأمريكية، مما يعزز نموها الاقتصادى ويدعم قدرتها التنافسية. بالإضافة إلى ذلك، قد تشعر هذه الدول بضغوط تضخمية أقل، حيث تصبح وارداتها المقومة بالدولار أرخص. كما يمكن أن يوفر هذا الوضع مساحة أكبر لبنوكها المركزية لتخفيف السياسة النقدية أو التريث فى تشديدها.

الاقتصادات الناشئة والديون الدولارية؛ أما الاقتصادات الناشئة والدول ذات الديون المقومة بالدولار، فالوضع بالنسبة لها سيكون أكثر تعقيدًا. بالنسبة لمن لديها صادرات قوية، قد يسهم ضعف الدولار فى تخفيف عبء ديونها، إذ يجعل سلعهم أرخص وأكثر تنافسية، مما يزيد إيراداتهم الدولارية ويساعدهم فى خدمة ديونهم بكفاءة أكبر. ومع ذلك، فإن الدول التى تعتمد بشكل كبير على الاستيراد أو لديها ديون ضخمة مقومة بالدولار ولا تعوضها صادرات قوية، قد لا تشعر بتخفيف كبير فى العبء. هنا، الأهم هو قيمة عملتها المحلية مقابل الدولار؛ فإذا حافظت عملتها على استقرارها أو ارتفعت، فإن تكلفة خدمة الديون الدولارية بالعملة المحلية ستنخفض. أما إذا ضعفت عملتها المحلية بشكل أكبر من ضعف الدولار نفسه، فسيظل العبء قائمًا أو يتفاقم.

تعزيز أجندة «فك الدولرة» العالمية: على الصعيد الجيوسياسى والاقتصادى، ستغتنم قوى مثل الصين وروسيا وتكتلات مثل «البريكس» ضعف الدولار لتعزيز أجندة «فك الدولرة». هذا التوجه سيعزز حجج هذه الدول لتقليل الاعتماد على الدولار فى التجارة الدولية والاحتياطيات الأجنبية. كما سيشجع ضعف الدولار المزيد من الدول على الانخراط فى اتفاقيات تسوية المدفوعات بالعملات المحلية، مثل اليوان والروبل، مما يقلل من حاجتها إلى الدولار ويُضعف هيمنته. وقد تستغل الصين هذه الفرصة لزيادة جاذبية اليوان كعملة تجارية واحتياطية بديلة، مما يدعم سعيها نحو نظام مالى عالمى متعدد الأقطاب وأقل تركيزًا على عملة واحدة.

ختامًا، فى ضوء ما سبق، يتضح أن المشهد الاقتصادى العالمى يشهد تحولًا محوريًا، حيث سجل الدولار الأمريكى تراجعًا حادًا وغير مسبوق خلال النصف الأول من عام 2025، هذا التدهور لا يمثل مجرد تقلب عابر، بل هو انعكاس لتحديات اقتصادية عميقة وتنافس دولى متزايد. بما قد يعيد مفهوم «حرب العملات» إلى الواجهة، لكن فى سياق مختلف. فبخلاف الحروب السابقة التى ركزت على التخفيضات التنافسية الصريحة، يُظهر وضع عام 2025 ضعفًا أساسيًا فى الدولار ناجمًا عن عوامل داخلية أمريكية، لا سيما التوجهات المرتبطة بأجندة الرئيس ترامب التجارية والمخاوف المتعلقة بالسياسة المالية. ومع أن قرار الفيدرالى بالإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة قد يدعم الدولار نظريًا، إلا أن الانقسام داخل الفيدرالى وعدم اليقين بشأن تأثير الرسوم الجمركية يحد من أى ارتفاعات مستدامة.

 

سالى عاشور

المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية

النص الأصلي

قضايا اقتصادية القضايا الاقتصادية العالمية والدولية والمحلية
التعليقات