لن نخوض فى تعريفات متضاربة للمناطق الجغرافية المختلفة المحيطة بنا، نظرا للتداخل والالتباس المتعلق بحدودها الفلسفية والجيوسياسية، وإن كان أقربها للفهم: «المنطقة العربية» بما تحيل إليه من دلالات تاريخية ــ حضارية، قومية فى التحليل الأخير، لما نسميه «الوطن العربى» رقعة جغرافية محددة بصورة عامة يقيم عليها «الشعب العربى»، ليتكون من ذلك مفهوم «الأمة العربية».
هناك أيضا ما يمكن أن نطلق عليه «المنطقة العربية ــ الإسلامية المركزية» التى تضم الوطن العربى مضافا إليه البلدان المحيطة به مباشرة، الواقعة فى مركز الدائرة الحضارية للعالم الإسلامى بمدلوله العام فى دراسات اللغات والأديان والحضارات، وأبرز منتسبيها إيران وتركيا، تمييزا لها عن البلدان ذات الأغلبية المسلمة فى الطرفين الكثيفين البعيدين نسبيا عن مركز الدائرة لدى كل من آسيا الشرقية، وأفريقيا الشرقية والغربية.
أما المصطلح المبتدع غربيا ــ استعماريا، أثناء وغداة الحرب العالمية الثانية، وهو «الشرق الأوسط»، فقد أثار من «النقع» الكثير ولَغَطا. وها هو يراد به الحلول محل «الوطن العربى» لتمييع الهوية الحضارية العربية، كونه يشير إلى بلدان متناقضة الهوية بما يسمح بإدخال (إسرائيل). وربما يفسر هذا حماس بعض المنظمات الدولية، خاصة «البنك الدولى»، لإقحام ذلك الملفوظ الهجين فى حُمّى المصطلحات المتداولة فى الأدب السياسى والاقتصادى راهنا؛ نقصد «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» MENA. وكلّ ذلك لتضمين إسرائيل فى منظومة أوسع منها تضم معها بلدان الوطن العربى الكبير، وربما إيران أيضا.
***
ومن ينسى ما ذاع وانتشر عن بناء ذلك (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) فى غمار (الموجة التطبيعية الأولى) بين بعض العرب الرسميين وإسرائيل فى الفترة أثناء وبعد ما أُطلٍق عليه «مؤتمر مدريد للسلام» عام 1990، الذى لحقه عقد سلسلة من «المؤتمرات الاقتصادية الإقليمية»، للدعوة إلى (سلام مصحوب بالرخاء)، كما قيل آنئذ، وذلك فى الدار البيضاء عام 1994 وفى العاصمة الأردنية عمّان 1995 وفى القاهرة 1996 وأخيرا فى الدوحة 1997. وقد صاحبتها جميعا حملة لتبادل العلاقات «التطبيعية» الرسمية وغير الرسمية بين إسرائيل وعدد من الحكومات، خاصة فى بعض من الخليج، من خلال فتح مكاتب و«ممثليات» كأنها سفارات، سرعان ما تساقطت تباعا فيما بعد بقليل. ذلك دون أن نذكر الموجة التطبيعية «التأسيسية» بين إسرائيل ودولتين للمواجهة مع إسرائيل بعد إرث حروب عديدة، نقصد كلا من مصر ــ فى عهد السادات ــ بمقتضى (اتفاقية كامب ديفيد) 1977 ثم (معاهدة السلام) 1979، والأردن بمقتضى «اتفاقية وادى عربة» عام 1994.
ومَنْ يمكن أن ينسى ما ذاع وانتشر أثناء وغداة عملية الغزو الأمريكى للعراق عام 2003 فى زمن «إدارة» جورج بوش الابن، حيث سوّقت دوائر الفكر الدعائى الغربية ــ الأمريكية، مصطلح «الشرق الأوسط الكبير» و«الشرق الأوسط الواسع» أو «الموسع»، ليضم إسرائيل دائما، جريا وراء الوهم الذى قام الرئيس الأسبق للكيان: (شيمون بيريز) بمحاولة بيعه فى سوق الأفكار باسم كان عنوان (كتاب) له بعنوان «الشرق الأوسط الجديد» New Middle East فى مطلع تسعينيات القرن المنصرم (1993). وكانت فحوى «الرسالة» التى حملها ذلك (الكتاب) بناء شرق أوسط مزدهر قائم على المزاوجة بين التقدم التكنولوجى الذى تبشر به إسرائيل، والنفط والمال يقدمهما الخليج، والعمالة الكثيفة فى البلدان العربية الأخرى وخاصة مصر، حيث كان يرى بيريز أن الشرق الأوسط بدون إسرائيل لا يعدو كونه «روضة أطفال كبيرة» بحكم هيكلية التركيب الديموغرافى الذى تهيمن عليه الشرائح العمرية الشابة. ذلك على الضدّ من الأُطّر التحليلية الديموجرافية الحديثة على الصعيد الدولى التى باتت ترى فى أن غلبة الشرائح العمرية من صغار السن تشكل نافذة وهِبَة سكانية من شأنها خلق فرص تنموية كبيرة فى المستقبل، بالاستفادة من الطاقات الخلاقة للشباب، إنْ أُحسِنت طريقة التعامل معها بالفعل.
ولما أن تهاوت فى عباب الواقع العملى العسير أحابيل الدعاية الصهيونية فى موجاتها المتلاحقة، كان لا بد من خلق أو اختلاق ذرائع تبريرية لإشاعة مصطلحات يراد بها، كما ذكرنا، محو المضامين القومية من الذاكرة العربية، واستبدالها بهذا المصطلح الجيو سياسى أو ذاك، مما تعجّ به جُعبة «مراكز التفكير» Think Tanks الأمريكية دائما، بامتداداتها لدى «اللوبى اليهودى» قوى التأثير الإيديولوجى، عظيم الأثر السياسى، فى ثنايا النظام السياسى الأمريكى بالذات. ومن ذلك ما يتم الترويج له فى الوقت الحالى فى سياق «الموجة التطبيعية الثانية» التى يُرجّح أن تلقى مصير سابقتها فى وقت قصير، فيما نرى. ولكن ما هذا الذى يدفع دفعا إلى موجة تطبيعية إثر أخرى..؟ أهُو من وحى الذات أم بدفع قَوى من خارج؟ وإن كان من الخارج فممّنْ ولِمَ..؟
***
فى محاولة للإجابة الأولية على ذلك، وبعد أن عرضنا لبعض المقدمات الأساسية حول المصطلح، مصطلح الشرق الأوسط، وبضعة من دلالاته، نجد أنفسنا الآن أمام نتائج بارزة، محصلتها تَبَلْوُر أربعة نماذج للسلوك السياسى الخارجى فى تلك المنطقة التى يمكن أن نصطلح على تسميتها بالشرق الأوسط والتى تضم الوطن العربى وبعضا من «المنطقة العربية الإسلامية المركزية» بالإضافة إلى مظهر من مظاهر النفوذ الاستعمارى المقيم. هذه النماذج الأربعة هى نموذج الوطن العربى وذلك التركى والآخر الإيرانى وأخيرا (الإسرائيلى).
ونبدأ بالنموذج العربى، ونشرع فى الحديث عنه لنجده متعلقا بالتعرض لتأثير خارجى غير قابل للمقاومة المتكافئة إلى حد بعيد، نظرا للقوة الطاغية للطرف القائم بممارسة التأثير، وشدة هذا التأثير، وفجوة القوة غير القابلة للتجسير تقريبا بين الطرفين المتقابليْن فى الأجل المنظور. إن الأمر أقرب إلى أن يكون قرارا لا رجعة فيه من قوى خارجية بعدم السماح لأية قوى فى النطاق الجغرافى للوطن العربى من أجل تحقيق السيادة الفعلية والفعالة على الموارد القومية National Sovereignty Over Resources وفق التسمية التى أطلقتها الجمعية العامة للأمم المتحدة فى إطار الدعوة إلى «نظام اقتصادى عالمى جديد» وإلى «القانون الدولى الجديد»، و«القانون الاقتصادى الدولى» خلال عقد السبعينيات. ينصرف ذلك بطبيعة الحال إلى موارد الثروة النفطية، البترولية والغازية، والمالية بالتالى، والتى تستحوذ عليها هذه المنطقة من الرقعة الكونية، فى مشرق الوطن العربى ومغربه وفى وسطه أيضا من «وادى النيل»، مع الاستحواذ على الحصة الكبرى من الاحتياطيات البترولية العالمية، وحصة معتبرة من إنتاج واحتياطى الغاز الطبيعى المسال والمصاحب. هذا يتعلق، فى المقام الأول، ببلدان الخليج عظيمة الثروة قليلة السكان وذات التركيبة الديموجرافية التى تعانى من اختلالات مزمنة معروفة، بقدر ما يتعلق فى الجناح المغربى بكل من ليبيا والجزائر، كما يتعلق، ضِمن حدود معينة، بجمهورية مصر العربية.
ونستكمل الحديث حول النموذج العربى ثم نعرض للنماذج الثلاثة الأخرى، فى الجزء الثانى من هذا المقال.