في السنوات الأخيرة كثر الكلام بين المتخصصين والعامة عن الذكاء الصناعي وأن هناك تطوراً هائلاً فيه وأصبح يهدد مستقبل الكثير من العاملين بل أن بعضهم (مثل إلون ماسك وستيفن هوكنج) وصل به الخيال أن أصبح يخاف على البشرية من أن تباد أو تستعبد على يد أجهزة فائقة الذكاء! كنا تحدثنا في مقال سابق عن الذكاء الصناعي وقد وجدنا أنه من كثرة الحديث في هذا الموضوع ووجود بعض المفاهيم المغلوطة عن هذا الموضوع فمن المهم أن نكمل حديثنا في موضوع الساعة الذي أصبح من يتكلم فيه من خبراء التسويق أكثر من خبراء علوم وهندسة الحاسبات!
النقطة الأولي في حديثنا هو أن من يتحدث هذه الأيام عن الذكاء الصناعي فإنه غالباً يتكلم عن الماكينة المتعلمة (machine learning) وهو أحد فروع التخصص الكبير للذكاء الصناعي، وغالباً أيضاً يقصد فرع أصغر متفرع من فرع الماكينة المتعلمة يسمى التعليم العميق (deep learning) وهو في داخله عبارة عن محاولة لمحاكاة جزء من وظائف المخ البشري.
ما هو الفارق بين هذا وبين أي برنامج كمبيوتر عادي؟ الفارق أن برنامج التعلم العميق لا يحتاج أن تبرمج فيه الخطوات اللازمة لحل مشكلة بل يكفي فقط أن تريه مشكلات سابقة وحلولها وسيتعلم منها، طبعاً هذا تبسيط مخل ولكنه يفي بالغرض هنا، فمثلاً شركة جوجل عندما صممت برنامجها للتعلم العميق للعب الشطرنج لم تبرمج فيه قواعد لعبة الشطرنج من خطط واستراتيجية وتكتيك وإفتتاحيات بل فقط أعطته مبادئ تحرك القطع وتركته يلاعب نفسه ويتعلم وحده وبعد مدة قصيرة (تقاس بالساعات) أصبح ينتصر على برامج شطرنج أخرى كانت هي نفسها تنتصر على بطل العالم!
هذا شيء شيق ولكن لننظر إليه بشيء من التدقيق.
التشابه بين طريقة عمل تلك البرامج وطريقة عمل المخ البشري تماثل التشابه بين الطائرات وبين الطيور، يوجد فارق صغير هنا: أننا لا نعرف كيف يعمل المخ البشري حتى الآن وكل ما نملك نظريات، بل وإن تعريف شيء مثل الذكاء صعب للغاية، فماذا عن كلمة مثل "الوعي"؟ الطبيعة تعطينا الخطوة الأولي التي نبدأ منها (الشبكات العصبية في حالتنا هنا) ثم نبدأ في بناء تكنولوجيا تنفعنا في الحياة ونعدل فيها لتلائمنا وفي هذا التعديل نبتعد كثيراً عن النموذج الموجود في الطبيعة، الطائرات النفاثة مثلاً لا تشبه الطيور بأي حال من الأحوال، كذلك برامج الذكاء الصناعي الحالية لا تشبه تصورنا الحالي (والذي قد يكون خطأ) عن كيفية عمل المخ البشري، لكن تكرار الكتاب والصحفيين لعبارة تصميم برنامج (أو كمبيوتر) يشبه المخ البشري هو من قبيل الإثارة لا أكثر.
نأتي إلى نقطة أخرى غاية في الأهمية: هل نريد فعلاً بناء كمبيوتر يشبه المخ البشري إن استطعنا إلى ذلك سبيلا؟ لا أظن، قد يبدو هذا شيقاً من باب الإثارة ولكن في الحياة العملية هل تريد كمبيوتر ينسى؟ نحن ننسى، هل تريد كمبيوتر يتذكر الأشياء بالتقريب؟ هذا حالنا كبشر، إذا فماذا نريد؟ نريد فقط كمبيوتر يستطيع التصرف إذا واجه مشكلة لم يرها من قبل أي أننا فقط نريد كمبيوتر يمتلك بعض الخيال، في العشرين من أكتوبر سنة 2015 أصدرت اللجنة القومية لاستراتيجيات الحاسبات (Natial Strategic Computing Initiative) بالبيت الأبيض في أمريكا تحدي للباحثين، فقد طلبت تصميم كمبيوتر "من نوع جديد يمكنه بمبادرة فردية منه التعلم من المعلومات المتوافرة عن أي موضوع وحل مشكلات جديدة لم يتطرق إليها من قبل وبنفس فعالية المخ البشري" .... ومازال التحدي قائماً.
النقطة الأخرى التي دائماً ما تثار عن الذكاء الصناعي أننا في القريب سنشهد إختفاء الكثير من الأعمال وسيفقد الكثيرون أعمالهم، النصف الأول من العبارة صحيح والنصف الثاني غير دقيق، نعم الكمبيوتر سيبدأ بعمل ما يقوم به الناس في بعض الأعمال مثل أعمال الصيانة والرد على الشكاوى وقيادة السيارات والقطارات بل والطائرات ... إلخ ولكن سيخلق هذا أنواع أخرى من الأعمال، سنلاحظ إختفاء أعمال لا تطلب مهارات كثيرة وظهور أعمل أخرى تطلب مهارات عقلية أكثر، وكلما تقدم الزمن سيزحف الكمبيوتر على أعمال تطلب مهارات عقلية أكثر من السابقة ويتبقى للبشر الأعمال التي تطلب مهارات عقلية أكثر فأكثر ... أليس هذا أدعى أن نهتم بالتعليم؟ لأن المهن المستقبلية لن تقبل بغير عقلية علمية ومهارات ذهنية متقدمة.
لنأمل أن نكون قد وضحنا ببساطة ما نحن مقبلون عليه وماهية الذكاء الصناعي ... وعلينا الآن أن نركز إهتمامنا على الذكاء الطبيعي!