منذ عدة أيام نشرت مؤسسة مهندسو الكهرباء والإلكترونيات المعروفة اختصارًا بـ(IEEE) تقريرًا عن التكنولوجيا فى السنة القادمة 2025، (IEEE) هى المؤسسة الكبرى المسئولة عن أكبر المجلات العلمية والمؤتمرات المتخصصة فى مجالات الإلكترونيات والكمبيوتر، فى مجال الكمبيوتر بالذات هى ثانى أكبر مؤسسة فى العالم بعد المؤسسة المعروفة اختصارًا باسم (ACM) أو (Association of Computing Machinery) أى جمعية أجهزة الكمبيوتر وهى المسئولة عن إعطاء جوائز تيورنج أعلى جائزة فى مجال الكمبيوتر. المهم نعود إلى تقرير مؤسسة الـ(IEEE) لنرى ما يتضمنه ونعلق عليه فى مقالنا اليوم.
التقرير يسمى «تأثير التكنولوجيا فى العام 2025 وما بعده»، وهو ليس تقريرًا بالمعنى الدارج أى الذى كتبه محرر أو كاتب بعد دراسة لكنه استبيان، فقد سألت المؤسسة 335 شخصًا يعملون فى منصب قيادى فى مجال تكنولوجيا المعلومات فى الشركات والمؤسسات الكبرى أى التى يعمل بها ألف شخص أو أكثر، الاستبيان شمل أشخاصًا من الصين وأمريكا، والهند، وإنجلترا، والبرازيل.
قبل أن ندخل فى تفاصيل نتائج الاستبيان هناك عدة ملاحظات:
• لم يشمل الاستبيان أى شخص من المنطقة العربية وهذا معناه أن علينا أن نبذل جهودًا أكبر كى نكون فاعلين فى مجال تكنولوجيا المعلومات بجميع فروعه. طبعًا من الممكن أن نأخذ الطريق السهل ونتهم المؤسسة بالتحيز أو الطريق الأسهل ونقول لكنها لم تسأل أشخاصًا من دولة كذا وكذا وهى دول متقدمة. أعتقد أن الاختيار اعتمد على الدول التى بها شركات كبرى ومؤثرة. هذا يعنى أن وجود أشخاص موهوبين لا يكفى كى نكون مؤثرين، بل يجب أن نضعهم فى منظومة عمل جماعى كى نحصل على أكبر الأثر.
• الأشخاص الذى شملهم الاستبيان يعملون بالصناعة أى الشركات وليس الجامعات أو المراكز البحثية وبالتالى تركيزهم على الجانب الاقتصادى للتكنولوجيا وليس الجانب العلمى، فقد تكون هناك تكنولوجيات أكثر تقدمًا لكن لم يحن وقتها بعد. الطريق من العلم إلى التكنولوجيا يمر ببوابة الاقتصاد، يجب ألا ننسى ذلك.
• الردود تعتمد على ما يراه كل شخص فى شركته ودولته والمجال الذى يعمل به فى تخصص تكنولوجيا المعلومات، وبالتالى هذه الآراء قد لا تنطبق بحذافيرها علينا، ولكن نسترشد بها من شركات سبقتنا فى هذا المجال.
لنرى الآن ما يقولون.
...
لا توجد مفاجآت كبيرة فالتكنولوجيات المتوقع أن يكون لها الأثر الأكبر سنة 2025 هى:
• تنبأ 58% من الذين شملهم التقرير أن الذكاء الاصطناعى بجميع فروعه وليس فقط الذكاء الاصطناعى التوليدى أى الذى نتحدث معه مثل (chatGPT) سيكون له أكبر الأثر. هناك أنواع أخرى من الذكاء الاصطناعى تعمل من وراء الستار ولها أثرها أيضًا مثل تلك التى تتنبأ بتطور أسعار الأسهم، هذه الأنواع يشملها هذا الترشيح.
• 26 % من الأشخاص اختاروا الحوسبة السحابية (cloud computing) كتكنولوجيا ذات الأثر الأكبر. قد يندهش البعض من هذا الاختيار لكن يجب ألا ننسى أن الذكاء الاصطناعى التوليدى «مسلى» بالنسبة لنا و«نندهش» له لكنه لا يؤثر فى حياتنا (بعد) مثل الخدمات التى نحصل عليها عن طريق الحكومة الإلكترونية مثل الحصول على مستخرج رسمى من ورق معين أو الاستعلام عن المخالفات المرورية… إلخ. هناك فارق بين الاستفادة والتسلية. الحوسبة السحابية هى مجموعة من الحاسبات العملاقة التى تقوم بخدمات للناس عن طريق الإنترنت. الإنترنت هى المقصودة بكلمة «السحابية» لأن الأجهزة المكونة لشبكة الإنترنت وتوصيلاتهم مثل السحاب أى دائمة التغير.
• الباقى اختاروا الروبوتات (robotics) وهذا أيضًا رأى له وجاهته لأن أجهزة الروبوت تُستخدم بالفعل فى الكثير من المصانع حول العالم وتساهم فى زيادة الإنتاج، ومن المتوقع أن تتسع دائرة استخدامها خاصة عندما يتم دمجها مع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى وهو ما بدأ منذ عدة سنوات.
هناك عدة أسئلة أخرى شملها التقرير من المفيد أن نتطلع عليها ففيها ما يفيدنا.
...
عند سؤال المشتركين إذا ما كانوا يتوقعون أن تتبنى شركاتهم استخدام الذكاء الاصطناعى التوليدى مثل (ChatGPT ،Gemini، …) فى 2025 تفاوتت الإجابات تفاوتًا كبيرًا فقد أجاب 33% فقط منهم أن احتمالية ذلك عالية. هذا معناه أن التسلية بتلك التكنولوجيا شىء واستخدامها على نطاق واسع شىء آخر. العالم بدأ يتخطى مرحلة الاندهاش وبدأ يفهم ليس فقط نقاط القوة فى تلك التكنولوجيا، ولكن أيضًا نقاط الضعف وكذا المشكلات القانونية والتقنية التى يجب مواجهتها. هذه نقطة صحية لأنها تعنى أن الاقتصاد (وهو هنا استخدام تلك التكنولوجيا فى الشركات) سيقود البحث العلمى إلى تطوير تلك التكنولوجيا بحيث يتم التغلب على أغلب نقاط الضعف، بدون هذا الضغط الاقتصادى سنجد أن الشركات الكبرى منتجة تلك التكنولوجيا سيهمها فقط النزول إلى السوق بسرعة معتمدة على اندهاش الناس وبراعة فرق التسويق عندها.
...
السؤال التالى كان عن مجالات استخدام الذكاء الاصطناعى فى 2025. حوالى 48% أجابوا أن أهم استخدام سيكون فى الأمن السيبرانى (cybersecurity) وكشف نقاط الضعف فى الأنظمة التكنولوجية المستخدمة فى مختلف مناحى الحياة. هذا ليس بمفاجأة فالحرب العالمية الثالثة إذا قامت ستكون حربًا سيبرانية. إذا اعتمدنا فقط على شراء التكنولوجيا من الخارج فسنكون متأخرين عن الدول المتقدمة لأنهم قطعًا لن يعطونا أحدث تكنولوجيا عندهم، ناهيك عن تصليح الأعطال والصيانة للتكنولوجيا التى سيعطونها لنا. لذلك نحتاج إلى شراء التكنولوجيا لفهمها، ثم دراستها، ثم تطويرها.
هناك 39% من الإجابات تعطى التعليم كأهم استخدام للذكاء الاصطناعى. تكنولوجيا التعليم تضمن تعليمًا راقيًا ومتقدمًا للطلاب، ولكن استخدام تكنولوجيا التعليم عندنا يجب أن يتم على مراحل آخذين فى الاعتبار التفاوت الاقتصادى بين الناس والتفاوت فى الإمكانيات بين القرى والمدن وكذا استيعاب الطلاب للتكنولوجيا الجديدة، وهذا يستلزم عدة مقالات لدراسته وتحليله.
...
ماذا نستخلص من كل هذا؟
• يجب على جامعاتنا الاهتمام بتدريس ثم تطوير تلك التكنولوجيات. عندنا أسماء متقدمة للمواد الدراسية، ولكن هل المحتوى يكافئ الاسم؟ أم هى فقط أسماء رنانة؟ هذا يعتمد ليس فقط على الأستاذ الجامعى، ولكن أيضًا على إدارة الجامعة التى يجب أن تتابع التطور العالمى وتحرص على وجوده داخل أروقة الجامعة حتى وأن تم تغيير محتوى المواد الدراسية كل سنة.
• العمل ضمن فريق هو الطريق إلى المنافسة عالميًا، سواء كان هذا الفريق فى الجامعة أم فى شركة. المجد الشخصى مدمِر لأية أحلام فى إحراز نتائج فى هذا العصر الذى نعيش فيه الذى أصبح العلم والتكنولوجيا من التعقيد بحيث لا يستطيع أن يلم به شخص بمفرده.
• هل نجد تعاونًا بين الأقسام العلمية المختلفة فى جامعاتنا أو بين جامعتنا؟ لنأمل أن يحدث ذلك فنحن لدينا المواهب ولدينا من عنده القدرة على العمل بجد، ولكن ينقصنا العمل بروح الفريق.
البحث العلمى يأتى بالفكرة ثم الاقتصاد يحولها إلى تكنولوجيا تنفع الناس وخبراء التسويق يروجوها بين الناس ثم علماء النفس الاجتماع يدرسون تأثيرها على الناس والمجتمع، نتمنى أن نجد تعاونا بين هؤلاء جميعًا لمنفعة الناس.