نشرت صحيفة المجد الأردنية مقالا للكاتب الأردنى «لبيب قمحاوى» حول مفهوم «الاحتلال الهادئ» والذى يعنى استسلام الشعب الفلسطينى للأمر الواقع، ومدى خطورة هذا الأمر على القضية الفلسطينية وعلى مقاومة الاحتلال، فضلا عن أهمية دور الشعب الفلسطينى فى التصدى إلى الضغوطات القادمة من سلطة الاحتلال.
يستهل الكاتب حديثه بالإشارة إلى المقولة القديمة بأن ما يصيبك ولا يقتلك يجعلك أقوى. وما سوف يقتل الفلسطينيين والعرب هو نهج القبول والخضوع والاستسلام لواقع القوة الإسرائيلية، وما سوف يجعلهم أقوى هو الرفض القاطع المانع للخضوع لذلك الواقع.
كلما ضربت إسرائيل بأقصى ما لديها فى عمق الآمال والأهداف الوطنية الفلسطينية، والمصالح القومية للأمة العربية، وفشلت فى فرض إرادتها وأهدافها، كلما قَلَت خياراتها خصوصا إذا ما تمكن الفلسطينيون من استيعاب كل ضربة وتجاوز آثارها دون أن يؤدى ذلك إلى استسلامهم أو خضوعهم بأى شكل وأى طريقة. فكلما ازداد الرفض والصمود الفلسطينى والعربى، كلما ازداد فى المقابل إحساس الإسرائيليين بالإحباط المتنامى نتيجة الافتقار إلى القدرة على فرض خياراتهم على الفلسطينيين وإرغامهم على القبول بها واقتناص الشرعية التى يسعوا إليها من خلال استسلام فلسطينى كامل.
إن الأوضاع السائدة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، باستثناء قطاع غزة، تعكس رؤيا ونهج السلطة الفلسطينية فى تكريس مفهوم «الاحتلال الهادئ»، وهو مفهوم شاذ يتناقض مع رؤيا أى شعب حى. فالشعوب الحية لا تقبل باحتلال أوطانها، وإذا ما حصل ذلك لأى سبب من الأسباب فإنها تقاوم ذلك الاحتلال باستمرار وبكافة السبل والأساليب التى تجعل من كلفة الاحتلال أمرا باهظا على الاحتلال نفسه، وتهدف إلى التحرير، وإلى أن يتم ذلك، إلى جعل الاحتلال حالة مؤقتة لا تحظى بأى فرصة للهدوء أو للقبول أو للديمومة. والشعوب غالبا ما تثور ضد أى احتلال، وبالتأكيد تثور بشكل أكثر عنفا ضد الاحتلال الإحلالى الذى يهدف إلى استبدال الشعب الأصلى بشعب غريب مستورد .
«الاحتلال الهادئ» هو العدو الأكبر للفلسطينيين بعد الاحتلال نفسه. فالاحتلال الهادئ يعنى الاستسلام للأمر الواقع والقبول به مما قد يعطى الآخرين انطباعا خاطئا بأن الاحتلال قد أصبح مقبولا كأمر واقع، أو بأن مقاومة الاحتلال لم تعد أولوية فى البرنامج الوطنى الفلسطينى. وهذا الوضع قد يُفْقِد العالم أية حافز لمحاولة حل موضوع الاحتلال وفرض تسوية ما، خصوصا وأن ما يُحَفِز العالم ويدفعه إلى التدخل هو وجود بؤر التَوَتُر والنزاعات المسلحة.
ويضيف الكاتب أن استمرار مفهوم «الاحتلال الهادئ» سوف يدعم النظرية الإسرائيلية أمام العالم بأن فلسطين أرض يهودية وهى بالتالى غير محتلة وأن أقصى ما يستحقه الفلسطينيون كأقلية فى الدولة اليهودية هو حكم ذاتى تحت الرعاية والسيادة الإسرائيلية. إن مفهوم «الاحتلال الهادئ» من شأنه أن يرسل إشارات خاطئة إلى العالم الخارجى، وحتى إلى العرب الراغبين فى تصديق ذلك، بأن الفلسطينيين راضون بالاحتلال وأن أقصى ما يريدونه هو بعض المكاسب والحقوق وليس بالضرورة إزالة الاحتلال. وهذا قد يكون أحد الأسباب وراء تراجع القضية الفلسطينية من سُلَم الاهتمام الدولى.
«الاحتلال الهادئ» قد يشجع المزيد من اليهود على الهجرة إلى أرض فلسطين على أساس أن الوضع هادئ والأمن مستتب ولا توجد أية مخاطر نابعة من حالة عدم الاستقرار الناجمة عن الاحتلال. وهذا من شأنه أن يخلق وضعا كارثيا يؤدى إلى تعزيز هجرة المزيد من اليهود إلى فلسطين وإلى إنشاء مزيد من المستعمرات فيها. لقد جاءت هيمنة اليمين الدينى الصهيونى على الحكم فى إسرائيل كنتيجة مباشرة لتشجيع هجرة المزيد من اليهود المتعصبين إلى فلسطين، وهذا الوضع فى مجمله قد جعل مِنْ جنوح النظام السياسى الإسرائيلى نحو أقصى اليمين، ومِنْ التقدم بالمزيد من السياسات والقوانين الإسرائيلية العنصرية، أمرا محتوما.
***
إن إصرار الفلسطينيين والعرب على رفض الاستسلام للهيمنة العسكرية الإسرائيلية والضغوط السياسية والحياتية المرافقة لها، ورفض التعامل معها من منطلق الخضوع للأمر الواقع، قد يُشكل بداية سقوط الخيارات الإسرائيلية، خصوصا إذا ما استعملت إسرائيل أقصى ما لديها من قوة ولؤم وجبروت لفرض إرادتها وفشلت فيما تسعى للوصول إليه. إن النجاح فى استنفاذ ما لدى العدو من مخزون الجبروت والأذى وجَعْلِهِ بلا طائل سوف يضعه أمام خيار واحد وهو البحث عن حل لمعضلة وجوده وبقائه إذا ما فشل فى الاستمرار فى فرض إرادته سواء بقوة السلاح أو بقوة الأمر الواقع، وإذا ما استمر الفلسطينيون برفض ذلك الواقع بشتى الأساليب.
إن رفض الفلسطينيين للقبول بإجراءات الاحتلال الإسرائيلى بغض النظر عن موقف السلطة الفلسطينية يبقى هو الأمر الأهم، وبالتالى اعتبار الرفض بأشكاله المختلفة شكلا من أشكال المقاومة. فالمسارات المختلفة تُكمل بعضها البعض ولا يُغنى أى مسار عن الآخر، وهذا يعنى أن السعى إلى تكامل المسارات ضمن إطار المفهوم العام لمقاومة الاحتلال هو أمر صحى ومطلوب ومتعارف عليه ويعكس تعددية طبيعية فى تبنى نهج مقاومة الاحتلال بشتى الطرق والأشكال .
الموقف الفلسطينى إذا هو الأساس والمُرشِد للموقف الجماهيرى العربى، وهو السَدَ أمام اندفاع الأنظمة العربية نحو التنازل لإسرائيل والاستسلام الطوعى المستند إلى حالة التفكك والانهيار الذاتى الداعم لتلك التنازلات. إن موقف الشعب الفلسطينى المعارض لأى تسوية بما فى ذلك صفقة القرن والتنازلات المجانية سوف يَفْصِل موقف الشعب الفلسطينى عن موقف السلطة الفلسطينية وسوف يعطى الشعوب العربية مؤشرا واضحا على حقيقة الموقف الفلسطينى من تلك التسويات. المحافَظَة على قوة وثبات وترابط الموقف الجماهيرى الفلسطينى ورفضه لإرادة الاحتلال يبقى أساسيا لمنع التنازلات العربية باسم الفلسطينيين، آخذين فى الاعتبار أن التحديات الخارجية التى يجابهها الفلسطينيون، وأهمها الاحتلال الإسرائيلى، هى عوامل توحيد للمجتمع الفلسطينى المقهور، فى حين أن التحديات الداخلية وخصوصا الانقسام الفلسطينى الحاصل بين فتح وحماس هى عوامل فُرْقَة وتَمَزُق من شأنها إضعاف موقف الفلسطينيين.
الفلسطينيون، خصوصا فى منطقة غزة فى الجنوب الفلسطينى، أظهروا قدرة مستمرة على الصمود وعلى رفض الانصياع لإرادة سلطات الاحتلال على الرغم من المنحى الاستسلامى المتواطئ للسلطة الفلسطينية وعلى الرغم من استعمال إسرائيل الوحشى والمتكرر لأقصى درجات العنف والعديد من وسائل التدمير العسكرى فى عدوانها على المدنيين وتحت مختلف الذرائع بهدف كسر إرادة الفلسطينيين هناك. إن صمود سكان منطقة غزة لم يقف عند حدود الرفض، بل تجاوز ذلك إلى فرض قواعد اشتباك جديدة فى جهود مقاومة الاحتلال ومقارعته بطرق تتراوح بين الاحتجاج والتصدى والتحدى ومقاومة إجراءات سلطة الاحتلال.
****
يتعرض العالم العربى والفلسطينيون إلى مخاطر وهواجس مرتبطة بما أصبح يدعى بصفقة القرن وتداعياتها السلبية المتوقعة على القضية الفلسطينية وعلى العرب بشكل عام. تهدف صفقة القرن فى أصولها إلى تكريس الأمر الواقع وإضفاء الشرعية على استعمار فلسطين باعتبارها أرضا للشعب اليهودى ووطنا له. وهذا الأمر لم يكن ليصبح ممكنا لولا الهدوء الذى يسود الضفة الفلسطينية المحتلة وحالة الانقسام الفلسطينى والانهيار العربى. ومن هنا تأتى خطورة الجهود الإسرائيلية لفصل منطقة غزة عن منطقة الضفة بهدف فصل مناطق «الاحتلال الهادئ» عن مناطق الاحتلال الملتهبة وحتى يصبح تطبيق النظريات والسياسات المرافقة لصفقة القرن ممكنا.
إن وحدة الموقف الفلسطينى خصوصا فى رفض صفقة القرن جملة وتفصيلا، ورفض القبول بها أو بنتائجها يبقى هو الأساس وهو الضمانة لعدم التفريط بالحقوق الوطنية الفلسطينية. ويجب العمل بالتالى على مقاومة أى محاولة لإغراء الفلسطينيين بمكاسب مادية، خصوصا بعد أن حَوَلت السلطة الفلسطينية دورها كقيادة فلسطينية من النضال من أجل التحرير، إلى العمل على تأمين الرواتب لموظفى السلطة، وحَوَلت أولويات القضية الفلسطينية بذلك إلى قضية حقوق مالية عوضا عن كونها قضية حقوق وطنية.
ويختتم الكاتب حديثه قائلا: «تبقى عناوين الصمود والنضال ضد الاحتلال ورفض مفهوم «الاحتلال الهادئ» والحلول الاستسلامية والتنازلات الطوعية، وضرورة إعادة بناء الموقف العربى والفلسطينى المناهض للصهيونية هى العناوين الحقيقية للمرحلة المقبلة» .