انحنَت السّيدة فى سيرها وتقوّس ظهرها وبان أن العصا التى تتوكأ عليها والتى تقوّست بدورها، على وشك أن تنكسر، كانت تحمل فى يدها الأخرى حقيبة بها مناديل ورقية، وتعلق على رسغِها عددا من السّبح، اقتربت من بعض السيارات فلم تتلق استجابة، وأخيرا التفت إليها أحدهم ولوّح بيده، فأسرعت الخُطى بقدر استطاعتها وهى تهتف: ومقامَك ما تكسفنى.. دا انت مقامك غالى وعِزّة ربنا. تخلَصت من بعض حملها، ومَضت تبحث عن صاحب مَقام آخر، يعفيها من الطواف المتواصل.
المَقام اسم مكان مُشتقٌ من الفعل قامَ ومَصدره قيام وهو لا يحتاج إلى مفعول به، فاعله قائمٌ والقيُّوم صيغة مبالغة، قامَ بالشىء أى أنجزَه، وقامَ على الشىء أى، حملَ مسئوليتَه وانخرطَ فى أدائه، وإذا قامَ الناسُ على شخصٍ قَوْمَةَ رَجلٍ واحد، فالمعنى أنهم هاجَمُوه فى الوقت ذاته.
غنَّى فهد بلان: «ما قدرش على كِده ومَقام السَّيدة»، من ألحان فريد الأطرش وكلمات صلاح جاهين، والسَّيدة هى زَينب حفيدة الرَّسول وأخت الحسين، وقد اختلف المؤرخون على المكان الذى دفنت فيه، وإن لم يمنع اختلافهم الناسَ من التبرُّك بالمسجد الذى يحمل اسمَها وبالضريح الموجود وبالمنطقة بأسرها. على كل حال، يُطلَق على الأمكنة التى يُعتقد أنها تحمل رفات الصّالحين كلمة «المقام»، ويقوم بعض الناس على خدمتها ومنهم من يلجأ إليها كلما ضاقت الدنيا فى وجهه واستفحَلت الأزمات.
تشير الحِكمة العربيّة بأن لكل مَقامٍ مقالا، والمعنى أن لكلّ موقِف خطابًا يناسبه ويدعمه، لا نعبأ اليوم كثيرا بالظروف والأحوال، إنما تتلبّسنا شهوة القول فى أىِّ وقت ومكان وسياق، وعادة ما تخرج الكلمات فى غير مَوضعها، فتصنع لغطا وتثير بلبلة، وتقصر بالتالى عن إحراز النتيجة المرجوة.
إذا قام واحد مقام آخر فقد حلّ مَحله، سواء فى عمل مِهنىِّ أو تنظيم اجتماعى أو فى أداءِ واجب عائلى، القائم مقام شخص عليه أن يملأ مكانَه وأن يُشعِر الآخرين أن شيئا لم ينقص بغيابه، فإن فشل، ذكروا مَحاسنَ الغائب وتمنوا عودته ولو من القبر، والأمثلة كثيرة تعجّ بها أحاديثنا اليومية، تلك التى نجترّ فيها ما كان ونتمنى استعادته.
إذا لم يتناسب الفعل مع قيمة الشخص قيل إنه ليس مِن مقامه، والمعنى أن حجمَ الشخص المعنىِّ أكبر وأن مكانته أعظم وأن الموقف أدنى وأوضع من أن يليقَ به، لا ينحصر الوصف فى الأفراد، إنما يمتد إلى الكيانات..
يقول النِّفريُّ فى نصه الشهير، المعنون بالمواقف والمخاطبات: «أوقفنى فى عَهدِه وقال لى احفَظْ عليك مقامَك وإلا مادَ بك كلُّ شىء»، كلماتُ النصّ حمّالة أوجُه بغير استثناء، بها مِن الرّمز ما يُعجِز القارئ، أما سَطحها الظاهر فلا يخلو من مَعنى بدوره، إذ حِفظُ المقام عاصم فى الأحوال كلها من الزَلل والزّيغ، أبو عبدلله النِّفرىّ أحد المتصوّفِين المرموقين والمتفردين فى الوقت ذاته، عاش جوالًا فلم يُعرف عن حياته الكثير وقد انتسَب إلى نفر بالكوفة، ويُقال إن من جمعَ أقواله التى أسكنها قصاصات مُتناثرة، هو حفيده محمد بن عبد الجبار النفرى.
قام أى وقف فى مكانه والفعل العكسى قعد أو رقد.. وإذا توخى الواحد الحرص فى مسلكه وحديثه والتزم الدقة والصراحة، فقد حفظ مقامه وجنب نفسه اللوم والتوبيخ، قد ينفعل المرءُ انفعالًا شديدًا أعقاب حدث جلل، تقوم قيامته، ولا يقعد إلا وقد نفث عن غضبه وثورته، بما قد يؤخذ عليه لاحقًا.
الناس مقامات والمعنى أن لكل منهم مرتبة أو درجة لا تستوى وغيرها؛ فى القول تمييز طبقى يراه طلاب المساواة الاجتماعية، وفيه أيضًا حكمة يراها المتدينون، والفصل بين الفريقين أن يتمتع الكل بحقوق واحدة، على خلفية الانتماء للجنس البشرى لا على خلفية ما يملك من جاه أو ثروة.
يشغف الواحد بعمل ما، فيبيت ليله مفكرا فيه ويصحو ليستأنفه ويوصف حينها بأنه: «قايم نايم عليه»، لا يتركه لحظة ولا ينشغل عنه بما دونه. يشكو كثيرون من افتقادهم للشغف، الأيام سواء والأحاسيس متبلدة، لا يوجد ما يستثير الحيوية والحماسة ولا ما يدخل على النفس الفرح، أنباء العالم لا تسر والشعور بفيض من التوتر والتشاؤم إزاء القادم يتسيدان الأجواء.
يُطلَق على مجموع النغمات المتتالية التى يتألف منها اللحن فى الموسيقى العربية مُصطَلح «المقام»، ويناظره فى الموسيقى العربية «السُّلم». ثمة عبارةٌ قصيرة تجمع المقاماتِ كى لا ينساها الدارس: «صنع بسحرك». لكل حرف فى الكلمتين مقام يبدأ به، فللصاد صَبَا، ثم نهاوند وعجم.. بياتى وسيكا وحجاز وراست وكرد، أما عن السلالم الغربية فتتسمى بأول نغمة فيها. السلالم والمقامات هى الحاكم فى عملية التأليف والمطربون العتاة يتمكنون من التنقل بأصواتهم بينها فى سلاسة بالغة، لا تستشعر الأذن معها ميلًا أو انحرافًا.
قولة احفظ مقامك تهديد يصدر فى أحوال التجاوز ومُؤداه: لا تُهِن نفسك، والمراد أن المسلك الظاهر سيؤدى فى نهاية الأمر لما لا تحمد عقباه. فى الإعلاء من الشأن والتنبيه للمكانة، قد يذكر الواحد أسماءَ عدد من الناس قائلًا: مع حفظ المَقاماتِ والألقاب، والقَّصد أن اختصار السَّرد لا يعنى التقليل من مرتبة المذكورين، المتمتعين بكامل الاحترام والتقدير.
المَقامَة مَنظومة نثرية لها سِمات وخصائص تميزها عن بقية أنواع الأدب، وتُذكَر مَقامَات أبى الفضل بديع الزمان الهمذانىّ المولود بإحدى مدن فارس؛ كأبرز مثال، وإذ يقع الكتاب الذى يضم مَقاماتِه فى ما يناهز الثلاثمائة صفحة، فإن أكثر من نصفها شرحٌ للمحتوى، وضعه مُحمَّد مُحيى الدين عبد الحميد، تيسيرًا على القارئ واستجلاءً لما غَمضَ من مقاصد.