المَكتَب - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 يونيو 2025 10:52 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما توقعاتك لمعارك إسرائيل مع إيران؟

المَكتَب

نشر فى : الجمعة 27 يونيو 2025 - 7:20 م | آخر تحديث : الجمعة 27 يونيو 2025 - 7:20 م

 أظنُّ أن مَكتَبَ الرئيسِ الأمريكيّ في البيت الأبيض، قد شهدَ خلال أعوام حُكْم دونالد ترامب ما لم يَشهَد منذ تأسيسه. الحاوي العجيب إيلون ماسك الذي انضمَّ في غفلة من الزمن لطاقم الموظفين، والطفلُ الذي حظي في المكان بما فاق مَراتب الملوك والرؤساء، والرئيسُ ترامب ذاته؛ بشطاته ونزواته اللاتي باتت حديث العالم ليل نهار: كلماتٌ قالها ثم ذابت كأنها كُتِبَت على ماء، وقراراتٌ أفصَحَ عنها وعن ضِدها ولم تمض بين هذا وذاك لحظات. أفكار مَعيبة شذَّت عن كلّ مألوف، وخُططٌ بدَت مُستحيلة لا تخطر ببال.

• • •

المَكتَب اسمُ مكان من الفعل كَتَب، وهو المَوضِع المُعدُّ لمُمارسة الكتابة. الفاعل كاتبٌ، والمَفعول به مَكتوب؛ وهي مفردة كانت تُطلق فيما مضى على الرَّسائل المنقوشة بخط اليد، يقضي ساعاتٍ في تنميقها مُحبٌ استبدَّ به الشوقُ وطال، أو يبعث بها ابنٌ إلى أهله من بلاد الغُربة، أو يُرسلها أبٌ لولده المُسافر؛ يَشدُّ من أزره في مواجهة المصاعِب وقد يحثُّه على الاكتفاء والعَودة.

• • •

المَكتبُ مكانٌ مُقدَّس عند بعض الناس. يُرتبون سطحَه بعناية، يضعون في أدراجِه أغراضَهم، يقصدونه ما دَعت الحاجةُ وينعمون بقليلٍ من التركيز. كانت للمكتبِ غرفةٌ أساسية في كثير البيوت، وكانت المكتبةُ جزءًا أساسيًا من الأثاث المُقتنى، وقد بات كلاهما قطعةً زائدة عن الحاجة في يومنا هذا؛ لا يتَّجه الاهتمامُ إليها إلا فيما نَدر. الغرفةُ يمكن شغلها بأشياء أهمّ والمَكتبة يُعاد تعريفُ وظيفتها فتغدو مطرحًا للشاشة وبعضِ لوازم الزينة، وقد غدت المَكتَبة التي عرفناها من قديم؛ صيحةً مضى زمنُها، لا يتمسَّك بها سوى من شبَّ وشابَ على رائحة الورق وملمَسه.

• • •

نشأت أقتات على مُحتوى مكتباتٍ عِدَّة، مُوزَّعة بين حجراتِ بيت جدتي. لكلّ مكتبةٍ مَهابة خاصة تليق بها ونَظمٌ يميزها، تمتد الواحدة منها ما بينَ الأرضِ وسماءِ الحُجرة، تتكدَّس أرففُها بألوان وأشكال من كتب مُختلفة اللغات، وتمثل في عينيّ كنزًا ثمينًا؛ أقفُ في حَضرته مَغمُورة بمشاعر الإجلال والتقدير.

• • •

 

قدمت الإذاعية اللامعة نادية صالح برنامج "زيارة لمكتبة فلان" في مطلع السبعينيات، واستضافت على مدار حلقاته مجموعة من المشاهير المرموقين في عالم الفكر، لتحاورهم بشأن مقتنياتهم من الكتب، وكان من بين ضيوفها الكبار توفيق الحكيم وسهير القلماوي وزكي نجيب محمود. أهدى البعض مكتبته فيما بعد لمؤسسة عامة أو لجمعية أهلية؛ حيث يمكن للطلاب والباحثين الاستفادة بمحتوياتها. لا مفرَّ والشيءُ بالشيء يُذكر؛ من المُرور بمَكتبة محمد حسنين هيكل التي أحرِقَت في برقاش عام ألفين وثلاثة عشر؛ ليصبح تفحُّم نفائسِها بمنزلة فاجعةٍ كبرى.

• • •

للمكتبة وظائفٌ مُتعددة ومُتباينة؛ هناك المَكتبات العامة التي تفتَح أبوابَها للقُراء، وتقبلُ أن يستعيرَ أعضاؤها الكُتُبَ مُتَّبعين القواعدَ المُنظمة، وهناك المكتبات الخاصة التي تعرِضُ الكتُبَ وتبيعها وبعضها تابع لدور النشر. هناك أيضًا المكتبات الخدمِيَّة التي أنشأها أصحابُها كي يستفيدَ بها عامةُ الناس؛ فيتمكنون من قضاء الوقتِ بين أروقتِها والمشاركة في أنشطتها.

• • •

غنَّى إيمانُ البَحر درويش "مكتوب لي أغنيلك" من كلماتِ هاني شحاته، كذلك غنَّى عليُّ الحجَّار "دي مكتوبالي" من كلمات سيد حجاب، وكلتا الأغنيتان للمُفارقة الطريفةِ من ألحان فاروق الشرنوبي؛ الأولى للوَطن والثانية للمَعشوق، والحق أن كلماتهما تتلاقى في رِقَّة الوَصف وجمالِ الصِياغات والصُّور. على كلّ حال، اختلفت مَصائر الفنانَين وإن صنعا في علاماتٍ لا تُمحى من الذاكرة.

• • •

احتوت مدرستي على مَكتبةٍ ذات مَساحة كبيرة. كانت لدينا حصةٌ مُخصَّصة للقراءة والاطلاع، وفي نهاية العام؛ كانت حصيلةُ الكتبِ المُتنوعة هي الجوائز التي تحصدها المُتفوقات؛ صاحبات المَراتب الأولى. لم تكن فكرةُ القراءةِ حينها مُستغرًبة، ولا كان اصطحابُ كتابٍ في غير أوقات المُذاكرة بأمر مُستهجَن أو داعي للاندهاش. 

• • •

أُطلِق لقبُ الباشكاتب مِن قديم على كلّ مَن امتهن تدوينَ الأوامر والتعليمات؛ الصَّادرة عن السُّلطة الحاكمة، وتقولُ المَعاجمُ إن الكلمةَ التي استُخدِمَت في الديوانِ الأموي؛ مأخوذة من اسم أسرةٍ عربية، مُركَّب من مَقطعين "باش" و"كاتب" والمعنى كبير الكُتَّاب، ويُذكر بالمثل "الباشتمرجي" الذي يُقدم الخدمات المُعاونة داخل المستشفيات.

• • •

تصاعدت أثمانُ الكُتُب وتحوَّل معرضُ الكتاب إلى مناسبة سنوية مُوجِعة؛ يشعر المرءُ أثناءها بالبؤس إذ تتناقص الحَصيلةُ مُقارنة بأعوام سابقة؛ جرت العادة خلالها على العَودة بحقائبٍ مُمتلِئة وشعورٍ مُحبَّب بالاكتفاء. أسعار الوَرق التي باتت عبئًا على دور النشر، تحوَّلت إلى قيد يغلُّ يديَّ القارئ ويُجبره على اللجوء لنسخ إلكترونية أو ما شابهها. هناك مَن اعتاد القراءة عبر الوسائل الجديدة؛ لكن ثمَّة أخرين يُفضلون الورقَ إلى الآن، ويستمتعون بتخطيط الأسطرِ والكتابةِ على الهوامِش، وثني أركانِ الصفحات. 

• • •

في بعضِ النوادي مكتباتٌ تتبَع دارَ الكتب والوثائق القومية؛ زرت إحداها فوجدت مقاعدَ خشبيةً غير مُريحة ومناضدَ مُرتفعة كأنها موائد مُعدَّة لتناول الطعام، والأهم؛ دفترًا قديمًا يُسجّل فيه الزائرون أسماءَهم ومِهنَهم وتواريخَ ميلادهم وأسبابَ زيارتهم؛ وكأنهم من أعاجيب الزمان.

• • •

تقول الأمثولةُ الشعبية إن "المَكتوب على الجبين لازم تشوفه العين"، والمعنى ألا مَفرّ من ملاقاة النَّصيب ولو سَعى المرءُ للهروب منه، وفي السياق ذاته تأتي الحكمةُ الشهيرة: "الحَذر لا يمنع القَّدر"، مؤكدة أنه مهمًا تحصَّن الناسُ فلن يأمنوا من خطر. توالت القفشاتُ السَّاخرة حال نشوبِ الحرب بين إيران وجيش الاحتلال، وتكاثر المزاحُ بشأن هجماتٍ نووِيَّة مُرتقبة. الوقايةُ من المُستحيلات، والتذرُّع بعدم التورُّط مع هذا الطَرَف أو ذاك لا يُخفِفُ من أثر الانفجار؛ لكن حسَّ الهَزل الذي نتميز به خارقٌ لكل نازلة، مُتجاوِزٌ للتوقُّعات.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات