صدقنى يا أستاذى، ولا تسىء الظن بى، أنا صحيح مش عارفة أنا عايزة إيه.
***
أعترف لك يا صديق العمر، أنا مبقتش عارف نفسى فى إيه، وإيه قبل إيه.
***
أعرف كثيرين يسعون بين الحين والآخر إلى تجديد تعارفهم مع أنفسهم كخطوة ضرورية نحو تحديث المعلومات عن الذات وتصحيح مسار العلاقة معها. كلنا نغيب عن أنفسنا فترات أحيانا تطول. ننشغل بأمور نظن أنها مهمة وبأشخاص نتصور أن وجودهم فى حياتنا حيوى، لنكتشف بعد قليل أو كثير أننا نعرف عن هذه الأمور المهمة والأشخاص الذين لا نستغنى عن وجودهم أكثر مما نعرف عن أنفسنا. كل يوم يمر يضيف الفرد من إلى موسوعته معلومات جديدة يستعين بها فى تطوير رؤيته لما حوله وعلاقاته بالآخرين، بينما تبقى معلوماته عن نفسه ثابتة لا تتغير بالزيادة أو النقصان، وتستمر العلاقة بينهما أى بين الفرد منا ونفسه جامدة لا تتطور. نزداد أو ننقص ثراء ونزداد أو ننقص علما وندخل أو نخرج من تجارب عاطفية ومهنية ولا نعرف ما تغير فى النفوس وكيف وإلى أى درجة. لا نعرف لأننا لا نسأل، لا نناقش مع أنفسنا أمر التباعد بيننا وبينها، وهو أمر جد خطير. لا نسأل لأننا لا نتوقف لنسأل ولا نناقش لأن صخب الحياة من حولنا يمنعنا.
***
رشحوا لى مكانا لأخلو فيه مع نفسى. اشترطت الهدوء وتمنيت السكون. أردت أن أعود إلى النفس لنتحاسب. أعرض عليها ما جنيت وما أضعت وأعتذر عما أكون قد أهدرت أو بددت. لن أكذب ولن أراوغ. كل ما أعرفه وأعترف به هو أننى وعدتها بالكثير ولم أنفذ إلا القليل. تغيرت شكلا وحجما وربما نضجت عقلا، ولم أسألها يوما إن كانت راضية بهذا التغير فى الشكل أو بهذا النضوج فى العقل.
زرت المكان. كان الوقت ربيعا وكانت المناسبة افتتاح قرية على شاطئ البحر. المصيفون لم يصلوا، وإن وصلت طلائعهم لتفرش البيوت وتزين الحدائق وتشغل البرادات وتجرب أجهزة التكييف وتخزن المؤن. كان حرص الطلائع واضحا، لا ضجة ولا صخب. اطمئن قلبى للهدوء المستتب معظم الوقت واستراحت النفس لأوقات السكون وأماكنه، وبخاصة فى ساعات الصباح الباكر أو فى المواقع الأبعد من الشاطئ. قررت أن أعود ففى هذا المكان سوف أجد السكون اللازم للاختلاء بنفسى وتسوية المشكلات بيننا.
***
قضيت شهور الربيع أحلم بالسكون القادم. عشت معظم سنين عمرى أحلم بسكون وصفته لى رفيقة سفر فى رحلة غير قصيرة بين مدينتين فى الألب السويسرية. استمعت إلى وصفها للسكون كما كنت أستمع وأنا طفل إلى حكايات هانز كريستيان اندرسين. خيال لا يرقى إليه الواقع، ولكنه الخيال المنعش للعقل، خيال ينشر البهجة ويريح القلب ويصحبك إلى فراش وثير وأحلام سعيدة. قالت أراك منبهرا بسكون سويسرا وحرص السويسريون على حماية هذا السكون، ومع ذلك يأتيك بين اللحظة والأخرى صوت رنين الأجراس المربوطة فى أعناق البقر الهائم على سفوح الجبال. لم يحتمل الشعب هنا روعة السكون فراح يهذبه برنين أجراس البقر. تعال إلى بلادى أسمعك ما لم تسمعه فى حياتك، أسمعك عذوبة صوت سكون من نوع فريد. هنا فى سويسرا يحترمون السكون، هناك فى بلادى يعشقون السكون. ننام فى أحضانه ونعمل فى ظله ونأكل على صوته. نتجول معه فى طرقات المدينه ونقضى فى صحبته وسط البحيرات أو تحت أشجار الغابات عطلة نهاية الأسبوع.
نعم.. نعشقه.
***
قرأت كثيرا خلال نهايات الربيع وبدايات الصيف عن السكون استعدادا له. عرفت أن الدولة الفنلندية دعت مواطنيها للمشاركة فى اقتراح حلول لأزمة اقتصادية. تكونت مجالس للعصف الفكرى توصلت إلى أن السكون أهم القوى الناعمة الفنلندية، ومصدر أساسى للثروة القومية ومن الضرورى استثماره. روجوا له. كتبوا ونشروا أن السكون سلعة حيوية قابلة للكسر كالكريستال والخزف. السكون لا وزن له ولا طعم ولا رائحة. السكون لا يوقظك من النوم ولا يرهق أعصابك ولن يشغلك عن أداء مهام أخرى. السكون لن يطغى على تهامس العشاق أو دندنات السعداء. أنتما فى الغابة أو فى القارب والسكون ثالثكما لستما فى حاجة للكلام بل إلى الحركة. السكون ينظم ضربات القلب ويضبط علاقاتك مع الآخرين.
لم أكن فى انتظار هذا السيل من الإغراءات لأتعرف على قيمة السكون. كنت أعرف أنه بالإمكان أن أستعيد بذاكرتى صوتا يردد كلاما عذبا سمعته قبل عشرات السنين، أو صوت قطعة من موسيقى بل صوت مناغاة هامسة لامست سمعى قبل عقود. أعرف أنه بالذاكرة أستطيع أن أستعيد صوتا أو آخر ولكنى لا بالذاكرة أو بغيرها أستطيع استعادة لحظة سكون بعينها.
***
ذهبت إلى قرية التصييف بعد أن كاد الصيف ينتهى. اكتشفت وجود حملة مكثفة لطرد السكون من القرية. اجتمع ضد السكون عشرات من الدراجات البخارية المجهزة بأسلحة صوتيه خارقة للأذن وعدد من المركبات البخارية أيضا المعروفة باسم خنفساء الشاطئ يركبها شبان وأطفال مدربون على فنون الحرب ضد السكون، وسيارات من كل الألوان تتسابق فى شوارع القرية التى كانت ذات يوم من أيام الربيع ساكنة. رحلت عن القرية عائدا إلى شارع جامعة الدول العربية، إلى الشارع الذى عشت فيه منذ كان ساكنا ومريحا وراقيا إلى أن صار يستحق أن يلقى سكانه مصير شعوب ما بين النهرين فى الزمن القديم عندما كانت الآلهة تشن الحملات لقتل بنى البشر لا لذنب اقترفوه سوى إثارة الضوضاء وحرمان الآلهة من نعمة السكون.