أعشق الإسكندرية، وأبحث عن كل ما يكتب عنها، وعن أبنائها النجباء من النجوم المتلألئة التى تنير سماءها فى أحلك الليالى عتمة. لا أكتفى وفق عاداتى بجولات السياح العابرين للمدينة والوقوف عند رمال البحر وموجه الهادر أحيانا، أو الجلوس على المقاهى التى يتابع روادها حركة الغادين والرائحين على كورنيشها العريق، بل أفضل أن تكون «التمشية» فى الشوارع الخلفية الضيقة والحوارى التى حشرت بين البحر والبحيرة، فاخرجت لمصر خير عقولها ومبدعيها.
فى منطقة كوم الدكة التى تحتل ربوة مرتفعة تبعد أمتارا قليلة عن مياه البحر، وبالتحديد فى 17 أغسطس 1892، أبصر النور من سيقلب موازين الموسيقى والغناء، ليس فى مصر وحدها بل فى الشرق كله. هنا فى المنزل رقم 112 بحارة البوابة الشهيرة بحارة الحاج بدوى بشارع السوق ولد طيب الذكر فنان الشعب سيد درويش، الذى شكلت ألحانه وأغانيه وجدان عشرات الأجيال من المصريين والعرب على مدى مئة عام وأكثر.
حياة قصيرة عاشها سيد درويش بعدد السنين ( توفى 15 سبتمر 1923 عن عمر 31 عاما) لكنها حياة طويلة بحجم الدور والتأثير فى مئات الملايين الذين قدم لهم فنان الشعب ما يعينهم على قسوة الأيام، وتقلب الخطوب، بعد أن مر هو نفسه بليال حالكات السواد، ونهارات لا تعرف سوى الشقاء والشاق من الأعمال، غير أن كل ذلك لم يكسر عزيمة الفتى الذى عشق الموسيقى وفتن بالغناء، فمنحنا أجمل الأشعار الغنائية وأعذب الألحان والنغمات.
وعلى درب التنقيب فى مسيرة سيد الذكر، خاض الكاتب الصحفى المجد، خيرى حسن، رحلة شاقة ومضنية بحثا عن إجابة لسؤال عادة ما يطرحه الصغار على الكبار.. بعضهم لا يجد الإجابة القاطعة، والبعض تنتابه الشكوك، فتبقى الحقيقة معلقة بشأن من هو مؤلف نشيدنا الوطنى «بلادى بلادى» بعد أن ظل كثيرون يعتقدون أن الكلمات تعود للشاعر محمد يونس القاضى، بينما اللحن فصاحبه فنان الشعب سيد درويش.
ومن خلال حشد من المصادر المتنوعة وشهادات القامات الكبرى فى عالم الفكر والأدب والفن ممن عاصروا سيد درويش، قدم خيرى حسن خلاصة بحث يستحق الثناء، يقول إن نسب «بلادى بلادى» إلى يونس القاضى، هو «فرية» لأن سيد درويش هو المؤلف الحقيقى للنشيد الوطنى، وهو ما أثبته بالوثائق والمستندات فى كتابه الصادر قبل أيام عن دار «أخبار اليوم» فاضحا «وقائع سرقة معلنة» لتراث سيد درويش.
ومن خلال تتبع محاولة الشاعر محمد يونس القاضى إثبات ملكيته لكلمات «بلادى بلادى»، بوثيقة قال إنه حصل عليها من المحكمة المختلطة فى (26 يناير 1923) يثبت خيرى حسن أن تلك الوثيقة «مزورة» لأن «يوم 26 يناير 1923» كان يوم جمعة وهو عطلة رسمية.
كما دحض خيرى فى كتابه أيضا ما قاله القاضى عن تسجيله لكلمات النشيد الوطنى فى الشهر العقارى، على الرغم من أن مصلحة الشهر العقارى أنشئت بموجب القانون رقم 114 لسنة 1948 أى بعد 25 عاما من تاريخ الوثيقة «المزعومة».
لكن ألا يشكل الكتاب إهانة وتشويها للشاعر يونس القاضى وإن أنصف سيد درويش؟ يرفض خيرى هذا الاتهام، ويقول فى نهاية تحقيقه الصحفى الطويل: «ما قلناه لم يكن بغرض تشويه أحد بل إننا ــ بفتح هذا الملف ــ نحاول إعادة الحق إلى صاحبه».
فى الأخير يطالب صاحب الكتاب بتشكيل «لجنة بحثية محايدة للوصول إلى الحق وتصويب الخطأ، وهذا إن لم يكن من أجل سيد درويش ــ وهو يستحق منا إعادة حقه السليب ــ فعلى الأقل من أجل الوطن وندائه ونشيده الوطنى الذى يسكن أرواحنا» وأنا هنا أقتبس سطوره.
دعوة الزميل خيرى حسن للفصل فى أحقية سيد درويش بكلمات نشيد «بلادى بلادى» تستحق الاستجابة من «المؤسسات الثقافية والفنية الرسمية وشبه الرسمية» لتصحيح خطأ، وهى دعوة ليست من الرفاهية فى شىء، بل واجب لنفض غبار الخمول والكسل عن عقولنا.