عشية المؤتمر الذى يعقد على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك بشأن فلسطين، برعاية فرنسية سعودية، أعلنت بريطانيا وكندا وأستراليا، بشكل شبه متزامن، اعترافها الرسمى بالدولة الفلسطينية، لتلحق بها البرتغال فى إعلان مماثل، فى قت ينتظر أن تكون فرنسا، وبلجيكا، ولوكسمبورج، ومالطا، وأندورا، وسان مارينو قد خطت الخطوة ذاتها.
لم يكن مفاجئا أن يقابل رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو هذه الاعترافات بعصبية، واصفا الخطوة بأنها «مكافأة كبيرة للإرهاب»، ومهدِدا بردود فعل انتقامية بعد لقائه المرتقب مع راعيه الأمريكى دونالد ترامب، غير أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش دعا، قبل أيام، المجتمع الدولى إلى عدم الخوف من التهديدات الإسرائيلية، مشددا على ضرورة أن «يشعر الإسرائيليون بعزلتهم حتى يحدث التغيير».
هذه الاعترافات الدولية، من لندن إلى أوتاوا وكانبيرا ولشبونة، مرورا بباريس، و5 عواصم أخرى على الأقل، تعيد إلى الواجهة سؤالا جوهريا: هل يكفى توقيع عشر دول جديدة، تضاف إلى 149 دولة تعترف بفلسطين رسميًا، كى تجبر إسرائيل على وقف العدوان وإطلاق النارعلى قطاع غزة، أو لجم عجلات الاستيطان فى الضفة الغربية؟
كثيرون يرون فى الخطوة إنجازا رمزيا، خاصة أن بريطانيا الدولة العظمى، صاحبة وعد بلفور المشئوم فى 2 نوفمبر 1917 لإنشاء «وطن قومى لليهود» فى فلسطين، تبدو كأنها تسحب شيئًا من رصيد النكبات المتتالية التى منى بها الفلسطينيون، لكن بالنسبة للمشردين والجوعى والمحاصرين فى قطاع غزة، تبقى هذه الاعترافات «بيانات» لا تقدم رغيفا ولا أمانا لطفل ينام وسط ركام البيوت المدمرة بالقذائف الإسرائيلية.
الاعتراف الدولى يمنح الفلسطينيين دفعة معنوية وغطاءً قانونيًا أوسع، لكنه لا يغير واقع المعابر المغلقة، والغارات الإسرائيلية التى ترفع كل يوم عدد الشهداء، حتى اقترب الرقم من 70 ألفًا، معظمهم من الأطفال والنساء.
أما فى الضفة الغربية، حيث يلتهم الاستيطان التلال والوديان، فقد تتحول الاعترافات الأوروبية إلى أوراق ضغط على إسرائيل، لكن الوقائع اليومية، من اقتحامات ليلية وتضييق اقتصادى، تؤكد، كما قال أحد الفلسطينيين، أن «الشرعية على الورق خطوة مهمة، لكنها لا توقف جرافة واحدة عن هدم البيوت وتشريد أهلها».
سياسيا، تمثل هذه الاعترافات ضغطا إضافيا على الولايات المتحدة، التى ما زالت تستخدم حق النقض «الفيتو» فى مجلس الأمن لتجميد أى مسعى لترقية فلسطين إلى عضوية كاملة بالأمم المتحدة. وفى المقابل، تبدو أوروبا منقسمة بين حذر برلين وروما، وحماسة باريس ولشبونة، فتبعث برسائل مزدوجة: تأييد لفظى لحل الدولتين، مقابل تردد فى مواجهة آلة القتل والدمار الإسرائيلية عمليًا.
لا يمكن إنكار رمزية هذه الخطوات ضمن محاولات كسر الحصار المضروب على الفلسطينيين، وربط قضيتهم مجددا بقيم العدالة والحق فى تقرير مصيرهم، لكن الاختبار الحقيقى يبقى على الأرض: هل تتحول الاعترافات إلى ضغوط اقتصادية ودبلوماسية ملموسة توقف العدوان على غزة، وتمنع الإبادة والتهجير القسرى، أم تظل حبرا يضاف إلى سجل طويل من قرارات أممية لم تنفذ؟!
فى شوارع غزة الضيقة وأزقة مخيمات الضفة، الجواب ليس فى العواصم البعيدة وحدها، حتى وإن كان بينها لندن وباريس، بل فى قدرة المجتمع الدولى على ترجمة الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى وقف فورى لإطلاق النار فى قطاع غزة، وحماية المدنيين، التى تقول وكالة «الأونروا» أن 1.9 مليون منهم باتوا نازحين قسرا بسبب «الدمار الذى لا يمكن تصوره» نتيجة استمرار العدوان الإسرائيلى.
لتحويل هذه الاعترافات إلى إنجاز حقيقى على الأرض، يحتاج الفلسطينيون إلى توحيد صفوفهم وإنهاء انقسامهم، مع دعم عربى بموقف موحد وضغط سياسى واقتصادى واستثمارات تنموية تعزز صمود الفلسطينيين وتمنع اقتلاعهم من أرضهم.. وهو اختبار لو تعلمون عظيم!