وجدت إسرائيل نفسها أمام ضغوط إقليمية ودولية غير مسبوقة فى مواجهة حرب التجويع التى تشنها على قطاع غزة، ما أسفر عن «تعليق تكتيكى» للعمليات العسكرية فى ثلاث مناطق بالقطاع، هى: المواصى، ودير البلح، ومدينة غزة، للسماح بمرور المساعدات الإنسانية، بعد أن شاهد العالم جرائم الحرب التى ترتكب بحق الفلسطينيين العزّل عند بعض مراكز توزيع الغذاء، والتى شهدت استدراجا للجوعى قبل أن تُحصد أرواحهم.
هذا التطور سمح ببدء تدفق المساعدات الغذائية عبر معبر رفح، وشاهدنا، رغم استفزازات المستوطنين، مرور عشرات الشاحنات من مصر إلى غزة، وسط حصار إسرائيلى خانق دفع العديد من المنظمات الدولية إلى إطلاق التحذير تلو التحذير من كارثة إنسانية. وكان آخر تلك التحذيرات ما صدر عن منظمة الصحة العالمية، التى قالت إن سوء التغذية فى القطاع بلغ «مستويات تنذر بالخطر».
لم تكتفِ المنظمة بالتحذير، بل أشارت إلى ارتفاع حاد فى عدد الوفيات خلال شهر يوليو، حيث ذكرت أن من بين 74 حالة وفاة مسجّلة مرتبطة بسوء التغذية فى عام 2025، وقعت 63 حالة فى يوليو، من بينها 24 طفلًا دون سن الخامسة، وآخر يزيد عمره على خمس سنوات، و38 بالغًا. كما نقلت المنظمة عن شركائها فى مجموعة التغذية العالمية أن نحو طفل من كل خمسة دون سن الخامسة فى مدينة غزة يعانى حاليًا من سوء تغذية حاد.
فى ظل هذا المشهد الكارثى، تصبح عملية توسيع نطاق إيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة ضرورة لا تحتمل التأجيل. ولعل الاستمرار فى ممارسة الضغوط على إسرائيل، بكل أشكالها - حتى الرمزية منها - يستحق الدعم والمساندة، علّها تُجبر حكومة الاحتلال على فتح كل الأبواب والنوافذ لضمان تدفق الإغاثة دون عوائق، فليس بعد تجويع المدنيين، صغارًا وكبارًا، من جرائم حرب أبشع.
اليوم، يتحدث الإسرائيليون أنفسهم عن حالة عزلة دولية.. وها هو رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك يؤكد أن العملية العسكرية فى غزة ستزيد «عزلة إسرائيل السياسية والقانونية»، وستقتل عددًا من الأسرى الأحياء، مشددًا على أن توسيع الحرب لن يؤدى إلى هزيمة حماس، وأن احتلال غزة وتهجير مليونى فلسطينى وتوطين الإسرائيليين محلهم مجرد أوهام سترتد على إسرائيل.
باراك ليس الصوت الوحيد؛ فقد خرج نشطاء إسرائيليون فى تل أبيب فى مسيرة باتجاه وزارة الدفاع، حاملين أكياس دقيق، تعبيرًا عن رفضهم لتجويع سكان غزة، وتزامنت هذه التظاهرة مع احتجاجات فى العديد من مدن العالم، بينها واشنطن، ونيويورك، وباريس للتنديد بحرب التجويع والحصار الإسرائيلى المفروض على قطاع غزة، والدعوة لوقف فورى لإطلاق النار، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية من دون قيود.
الضغوط الشعبية، التى تتقاطع مع ضغوط سياسية رسمية مثل إعلان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون نيته الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر المقبل، مع توقعات باعتراف عشر دول أخرى، يجب أن تستثمر فى «طرق الحديد وهو ساخن» والضغط من أجل تحويل «التعليق التكتيكى» الإسرائيلى للعمليات العسكرية إلى وقف دائم لإطلاق النار، وبما يسمح بتدفق مستمر للمساعدات، ويخفف من المأساة غير المسبوقة التى يعيشها الفلسطينيون.
الغضب الشعبى العالمى من الصلف الإسرائيلى، وصور أشلاء الأطفال التى تطارد الضمير الإنسانى، يجب أن يثمر موقفًا سياسيًا جديدًا يكسر الحلقة المفرغة من مفاوضات عقيمة بين إسرائيل وحماس لم تفضِ حتى الآن إلى وقف لإطلاق النار، فى ظل ادعاء واشنطن السعى لحل، بينما تواصل دورها كشريك فى إفشال كل جهود الوسطاء لإنهاء مأساة مليونى إنسان.
وفى الأخير: تبقى حرب التجويع فى غزة جريمة لا يجب أن تسقط بالتقادم أبدًا، فهى تكشف وجه الاحتلال الكريه، وتستدعى ضمير العالم لإنهاء الحصار وإنقاذ ما تبقى من إنسانية تسحق تحت ركام الجوع والدمار.