منذ عدة أيام انتهت في دولة الإمارات العربية فعاليات منتدى "القمة العالمية للحكومات" (United Government Summit) وقد تابعت تغطية بعض هذه الفعاليات على شاشات التليفزيون وعلى الإنترنت وكانت أهم الموضوعات تدور حول التقدم التكنولوجي ودوره في تغيير حياة الناس في المستقبل ومن أهم الموضوعات المتعلقة بالتكنولوجيا والتي نوقشت وحازت على اهتمام الحضور هو موضوع الذكاء الاصطناعي أو الذكاء الصناعي بالتعبير الدارج، وهذا هو موضوعنا اليوم لأنه يمس (أو سيمس) الكثير من شؤون حياتنا في المستقبل القريب.
لن نتكلم في أمور علمية جافة فليس هنا مكانها ولكن بكلمات بسيطة نقول إن الذكاء الصناعي هو جعل الكمبيوتر يقوم بأشياء تجعله "يبدو" ذكيا وكلمة "يبدو" هنا هي كلمة مهمة جدا فالكمبيوتر في النهاية آلة تنفذ مجموعة من الحسابات وليست ذكية بالمعنى البشري للكلمة، نحن مثلا نصف من يلعب الشطرنج جيدا بالذكاء والآن أي جهاز كمبيوتر صغير يمكنه هزيمة بطل العالم في الشطرنج فهل معنى ذلك أن الكمبيوتر تفوق على الذكاء البشري؟ بالقطع لا ولكنه يحسب حساباته بطريقة أسرع من البشر.
لكن لماذا هذا الاهتمام الكبير والشهرة الواسعة التي حازها مجال الذكاء الصناعي مؤخرا حتى أن دولة الإمارات أصبح عندها وزيرا للذكاء الصناعي وقد كان هذا الفرع من العلم موجودا منذ خمسينات القرن الماضي؟ السبب ببساطة هو تطور أجهزة الكمبيوتر وزيادة قدراتها الحسابية بشكل مدهش في النصف قرن الماضي (لذلك تحدثنا في مقال سابق عن أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة وأنها الآن مجال حرب باردة بين أمريكا والصين)، دون هذا التقدم الكبير جدا في تصميم وقدرات أجهزة الكمبيوتر لظل مجال الذكاء الصناعي حبيس الأوراق العلمية وأروقة المؤتمرات العلمية المتخصصة.
النوع الأكثر شيوعا في مجال الذكاء الصناعي حاليا والذي يعتبر الأساس في أغلب التكنولوجيا المعتمدة على الذكاء الصناعي الآن هو ما يسمى بالماكينة المتعلمة (machine learning) وهذا الفرع من الذكاء الصناعي أحدث طفرة كبيرة، في السابق عندما كنت تريد أن تحل مشكلة ما عن طريق الكمبيوتر كان يجب عليك أن تكتب برنامج للكمبيوتر لحل هذه المشكلة، أما الآن فأنت لا تحتاج إلا إلى نوع معين من البرامج وأنت تعلمه، مثلا شركة جوجل أجرت تجربة جعلت فيها الكمبيوتر يلاعب نفسه شطرنج وتعلم من ذلك وفاز على أقوى برنامج شطرنج حاليا، أي أنك تعطي الكمبيوتر مشاكل قديمة وحلولها وهو سيتعلم منها، هذا تقدم كبير لأنك الآن بدلا من أن تكتب برنامجا للكمبيوتر ستكون مهمتك "التدريس" للكمبيوتر.
عن طريق التعلم سيصبح الكمبيوتر قادرا على قيادة سيارة وقد تمت الكثير من التجارب الناجحة في هذا المضمار والحوادث التي حدثت في بعضها كانت نتيجة أخطاء من سائقين بشريين!
مسلحا بالذكاء الصناعي بدأ الكمبيوتر اقتحام مجال الفن فعندنا في الجامعة مثلا مادة في الدراسات العليا عن كيفية جعل الكمبيوتر يؤلف نوتة موسيقية وتوجد دراسات منشورة عن كمبيوتر يرسم لوحات.
أصبح الموضوع غريبا وأصبح الناس يتساءلون إذا كانت هناك مخاطر من اقتحام الكمبيوتر لكل تلك المجالات وسيطرته على كل وسائل حياتنا؟
أولا المخاوف من أن تخرج أجهزة الكمبيوتر عن سيطرة الإنسان وتسيطر هي على كوكب الأرض وتستعبدنا لن يحدث إلا في أفلام الخيال العلمي، فالكمبيوتر ما زال آلة حسابية ولكن البرمجيات تجعل هذه الحسابات تأتي بأشياء تبدو كذكاء ولكنها ليست بذكاء، هل سيصبح الكمبيوتر أكثر تقدما وأفضل من الإنسان في مجالات كنا نظنها بعيدة عن قدرات الكمبيوتر (وقد ذكرنا أمثلة في هذا المقال)؟ الإجابة هي نعم ولكن ستظل اليد العليا للإنسان، يستطيع الكمبيوتر تشخيص أعراض مرضية لمريض ما ويعطي الطبيب عدة تشخيصات وأنواع للعلاج ولكن القرار النهائي في يد الطبيب لأن الكمبيوتر في النهاية عامل مساعد لكنه عامل مساعد مهم جدا لأنه مهما كان الطبيب بارعا فلن يمكنه ملاحقة الأبحاث العلمية التي تنشر كل سنة لكن الكمبيوتر يمكنه ذلك، الكمبيوتر يمكنه تأليف نوتة موسيقية ولكنه لا يستطيع تلحين قصيدة لأن ذلك يعتمد على المشاعر والمشاعر هي شيء لن تصل لها أجهزة الكمبيوتر.
التغير الكبير الذي سيحدث سيكون في الوظائف المتاحة لأنه ستختفي وظائف وتظهر وظائف أخري كما هو الحال مع أي تقدم تكنولوجي، إذا أخذنا مثلا السيارات ذاتية القيادة فإنها قد تنهي مهنة القيادة ولكنها ستحتاج لمن يجهز طرق خاصة ومن يجمع معلومات وإحصاءات عن الطرق بالإضافة للخدمات على الطريق وصيانة هذه السيارات المتقدمة من مهندسين كمبيوتر وميكانيكا ومبرمجين.. إلخ.
الوظائف التي ستختفي هي ما تحتاج مجهود عضلي أكثر وقوة عقلية أقل ... إذا التعليم تزداد أهميته مع التقدم العلمي.
تأثير الذكاء الصناعي على التعليم يأتي من جهتين: مواد متقدمة يجب تدريسها وتتجاوز فقط البرمجة أو علم الذكاء الصناعي إلى فرع آخر يسمى علم المعلومات (data science) وهو يجمع بين علوم الحاسب والرياضيات.
الجهة الثانية هي استخدام الذكاء الصناعي في العملية التعليمية نفسها مثل توصيل المعلومة للطالب حسب قدرته على الاستيعاب أو وضع وتصحيح الامتحانات وهكذا.
نحن بدأنا موضوعا ولم ننهه بعد نظرا لأسئلته المتشعبة مثل: ما علاقة الذكاء الصناعي بعصر المعلومات الغزيرة (big data)؟ كيف نستفيد من ذلك في مصر؟ وهل يعتبر ذلك رفاهية في ظل الأحوال الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد؟.. وللحديث بقية في المستقبل إن شاء الله.