نشرت صحيفة الدستور الأردنية مقالا للكاتب «عريب الرنتاوى» وجاء فى:
فى توقيت متزامن، أنهى مؤتمرا وارسو وسوتشى أعمالهما الخميس الماضى، من دون أن يترتب على أى منهما نتائج درامية تذكر، يمكن أن تحدث «اختراقا» فى معالجة أى من الأزمات المفتوحة التى تعصف بالإقليم وتتهدد أمنه واستقراره، بل ومن دون أن يترتب على أى منهما، تغيير جوهرى فى سلم أولويات وخرائط تحالفات و«قواعد الاشتباك» بين دول المنطقة والعواصم الدولية ذات الصلة.
فى وارسو، اصطدم «مؤتمر الأمن والسلام فى الشرق الأوسط» منذ البدء بخلافات بين واشنطن من جهة وأقرب وأهم حلفائها الأوروبيين من جهة ثانية.. خلافات أفضت لخفض مستوى المشاركة الأوروبية فى المؤتمر، بغياب وزراء خارجية الاتحاد وألمانيا وفرنسا، وحضور وزير الخارجية البريطانى، المشروط والمحدود بمناقشة الملف اليمنى فقط.. وهى الخلافات ذاتها التى حالت كذلك، دون خروج المؤتمر بخطة عمل وآليات محددة لمواجهة «التهديد الإيرانى» الذى كان فى أصل فكرة انعقاده كما طرأت على مخيلة الوزير مايك بومبيو فى جولته الشرق أوسطية الأخيرة.
لم يكن مستغربا والحالة كهذه، أن يتحول المؤتمر إلى منصة لكيل الاتهامات والتهديدات و«الخطابات البلاغية» ضد إيران.. صحيح أن المؤتمر أظهر إلى «حد ما» عزلة إيران السياسية، وهو لهذا السبب لم «يولد ميتا» كما قال الوزير الإيرانى محمد جواد ظريف، بيد أنه لم يكن نصرا يستوجب الاحتفاء والحفاوة، كما بدا من تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الاحتفالية.
«المزيد من الشىء ذاته»، هذه هى العبارة التى تلخص نتائج مؤتمر وارسو، وعلى شتى المسارات، وليس على المسار الإيرانى فحسب، إذ حتى على مسار التطبيع العربى ــ الإسرائيلى، فإن كثيرا من المراقبين يجدون صعوبة فى قبول حديث نتنياهو عن «لحظة انعطاف تاريخية»، فبعد زيارة نتنياهو لمسقط، لا يمكن النظر للقائه مع وزير خارجيتها بوصفها اختراقا نوعيا، وبعد الزيارات المتبادلة بين مسئولين إسرائيليين وعرب، لا يمكن اعتبار جلوسهم إلى مائدة واحدة، بوصفه «محطة تاريخية»، تؤذن ببدء تحالف عربى إسرائيلى فى مواجهة طهران.. وبمعزل عن فيض المشاعر الذى اجتاح مراقبين للمشهد فى أوسلو، إلا أن تقييما موضوعيا للحدث يؤكد أن مسار التطبيع العربى مع إسرائيل قد سجل تقدما ــ بالنقاط ــ فى وارسو، بيد أنه لم يصل بعد، حد الاختراق.
أما فى سوتشى، فإن تقدما جوهريا لم يطرأ على أى من الملفات الأربعة التى بحثها ضامنو مسار أستانا: المنطقة الآمنة شمال شرق سوريا، مصير إدلب وجبهة النصرة المتحكمة بها، منبج وجوارها، واللجنة الدستورية والمسار السياسى لسوريا... بل ويمكن القول إن المواقف من هذه الملفات ظلت على حالها تقريبا، وأن الأطراف نجحت فقط فى احتواء خلافاتها وتنظيمها، وحافظت على علاقاتها البينية التى بدت مهددة بالانقسام والصدام فى الأسابيع القليلة الفائتة، وأعادت الاعتبار لهذا المسار، بوصفه مسارا فاعلا للتعامل مع التطورات السورية الناشئة.
بخصوص إدلب ظل الخلاف التركى ــ الروسى (الإيراني) على حاله، تركيا تريد إطالة أمد «الستاتيكو»، وروسيا مع إيران تستعجلان الحسم مع النصرة.. أما المنطقة الآمنة فما زالت تثير الكثير من الخلاف، على الرغم من تزايد الحديث مجددا عن «اتفاق أضنة» بوصفه إطارا يمكن التأسيس عليه فى العلاقات الثنائية بين دمشق وأنقرة، ومرجعية لمشروع المنطقة الآمنة، فيما البحث حول منبج لن يكون جادا وجديا فى غياب اللاعب الرئيس فيها عن سوتشى، وانهماكه فى وارسو بالعمل على مواجهة إيران والحد من النفوذ الروسى فى المنطقة والعالم.
وما ينطبق على منبج، ينطبق على اللجنة الدستورية، التى يبدى الموفد الأممى لسوريا تباطؤا ملحوظا فى الجهود الرامية لتشكيلها وتفعيل أشغالها، مفضلا ضبط خطواته على إيقاع المواقف الأمريكية ــ الأوروبية، الساعية المتريثة، والضاغطة على موسكو وحلفائها لإطلاق عملية سياسية أكثر توازنا، موظفة أوراقا عدة، منها إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، وعودة سوريا للجامعة العربية، فضلا عن تشكيل اللجنة الدستورية والتلويح المستمر بمسار جنيف بديلا عن مسار أستانا أو موازيا له، كوعاء للحل السياسى لسوريا.
على أن عرض روسيا وإيران «التوسط» بين دمشق وأنقرة، من أجل تفعيل اتفاق أضنة وربما تطويره وتعديله عبر مفاوضات مباشرة بين سوريا وتركيا، هو من أهم المؤشرات على نجاح «مؤجل» لمؤتمر سوتشى، وإن كان من السابق لأوانه التكهن، بأن هذه الوساطة ستلقى القبول المتحمس من قبل الجانبين، أو أنها ستنجح فى تحقيق مراميها.
قاعدة «المزيد من الشىء ذاته» تنطبق على نتائج مؤتمر سوتشى، قدر انطباقها على نتائج مؤتمر وارسو.. والخلاصة المترتبة على نتائج المؤتمرين المذكورين تقول: إن المنطقة بأزماتها المركبة وصراعاتها المتداخلة، لم تنضح بعد لخيار الأمن والاستقرار والسلام، بيد أنها غير مستعدة فى الوقت ذاته، لتغيير قواعد الاشتباك بين لاعبيها الكثر من إقليميين ودوليين.