فى الأسبوع الفائت اختتمنا القسم الأول الذى نشرناه من هذا النص المتحدث عن العلاقة بين المخرج الفرنسى / السويسرى جان غودار الراحل منذ سنوات بعدما شغل دنيا السينما والنضال السياسى أكثر من نصف قرن وغالبا، كما نشير ونتابع فى هذا النص الذى ننشره على أية حال بمناسبة مرور نصف قرن على الولادة الغنية والإشكالية للاهتمام الغودارى بفلسطين، بالتأكيد على أن «حضور فلسطين فى شكل ملحوظ ومتزايد فى أفلام جان غودار، قد أثار استغراب عدد من المهتمين بالسينما فى السنوات الأخيرة ودفعهم إلى التساؤل حول خلفيات هذا الاهتمام الغودارى بقضية شائكة من هذا النوع، وفى زمن تراجع فيه الاهتمام بمثل هذه القضايا فى سينمات بعض كبار المخرجين فى العالم». لكننا أكدنا أن العارفين بسينما صاحب «بيارو المجنون» و«على آخر رمق»، لم يستغربوا الأمر.
ولم يكن هذا فقط لأن غودار جعل دائما من الاهتمام بالقضايا العادلة جزءا من مساره المهنى والحياتى وضافر بينه وبين سينماه فى عدد كبير من أفلامه التى لم يتوقف عن تحقيقها طوال ما يزيد على ستين عاما، وحتى شهور قبل رحيله، بل خصوصا لأن غودار اهتم، سينمائيا، ونضاليا، بالقضية الفلسطينية منذ زمن مبكر. وتحديدا منذ أواخر ستينيات القرن العشرين وبدايات سبعينياته، حتى وإن كان قد وجد – بين الحين والآخر، وكما أخبر كوهين بندت، نفورا تجاه بعض الممارسات الفلسطينية التى لم يفهمها واعتبرها مسيئة إلى «القضية». (وعبر عنها على أية حال فى نصه «فتح» الذى أشرنا إليه فى القسم الأول). وفى هذا الإطار يجب – طبعا – إدراج حكاية «الفيلم الفلسطينى» الأول لغودار، والذى شرع فى تحقيقه فى عام 1970 وزار الأردن وأقام فيه شهورا فى سبيل إنجازه، لكنه سرعان ما وجد نفسه عاجزا عن ذلك.
كان عنوان الفيلم «ثورة حتى النصر» اقتباسا من الشعار الثورى الفلسطينى الذى كان رائجا عهد ذاك. وطبعا يمكننا أن نتصور الآن أن غودار على رغم ثوريته ويساريته المعلنتين فى ذلك الحين لم يكن بعازم على أن يستخدم العنوان بمعناه الحرفى الشعائرى، بل بشكل تناقضى، بالنظر إلى أن نظرته إلى صفاء الثورة المطلوبة من حول فلسطين ومن أجلها، كانت – تلك النظرة – ترى بعين الانتقاد إلى الممارسات اليومية، فى أماكن الوجود الفلسطينى كالأردن وغيرها. بيد أن غودار سوف يقول لاحقا إن ما كان يرمى إليه من انتقاد إنما كان أشبه بانتقاد من الداخل... من أهل البيت. فهو منذ ذلك الحين، لم يكن يعتبر نفسه عدوا للثورة الفلسطينية مضخما عيوبها وبعض ممارساتها.
إذا، على ضوء هذه النظرة وهذا الواقع توجه غودار فى ذلك الحين إلى الأردن، حاملا معه معداته مصطحبا فريق عمله المناضل بدوره، ومزودا بتوصيات من فلسطينيى باريس، وبمكانة لائقة أمّنت له احترام القيادات الفلسطينية التى وفرت له الدعم اللازم والمرافقة الضرورية وسط بيئة كانت تضجّ بشتى أنواع الصراعات. وفى الأردن صوّر غودار الكثير من المشاهد، ودوّن الكثير من الملاحظات والتقى كثرا من الناس، ورصد – بخاصة – بدايات ما سوف يحدث من مذابح وكوارث فى الأردن بسبب الوجود الفلسطينى وسلاحه، كما بسبب الصراعات المحتدمة بين شتى الفصائل «الفدائية»… كما أنه رصد فى شكل خاص حياة الفلسطينيين اليومية متعاطفا مع الناس العاديين وصغار المقاتلين، مع ازدياد فى نظرته الناقدة إلى القيادات والممارسات الفاسدة والمفسدة.
مهما يكن من أمر، فإن غودار لم ينجز هذا الفيلم. وعلى رغم الروايات المتضاربة حول هذا الاستنكاف، فإن أحدا لم يزعم أنه يملك الحقيقة من حوله، من قائل بأن السبب خلافات وقعت بين غودار ورفاقه الفلسطينيين فى الأردن آنذاك، إلى قائل بأن الأوضاع الأمنية كانت قد ازدادت سوءا، إلى مؤكد أن غودار توقف فجأة عن متابعة العمل من دون أن يقدم أسبابا... إلى ما هنالك من ذرائع أو أسباب. غير أن غودار لم يرم ما صوّره طوال ساعات وأيام وأسابيع. بل إنه احتفظ به، غير دار أول الأمر بما يمكنه أن يفعل به. ولسوف يقال لاحقا إن هذا المخرج ذا الأفكار التى لا تنضب رسم وخطط طوال السنوات القليلة التى تلت رحلته الأردنية/ الفلسطينية، عددا كبيرا من المشاريع التى أرادت استلهام الرحلة والقضية واستخدام الشرائط المصورة فى آن معا... سواء أكان ذلك فى أفلام وثائقية أو فى أفلام روائية. وكان من المعروف فى ذلك الحين أن الجزء الأكبر من الشرائط المصورة كان عبارة عن حوارات مع قيادات من فتح تدور من حول «أساليب الفكر والعمل التى تمارسها الثورة الفلسطينية». ناهيك بأنه كان من المعروف أيضا أن عددا من المناضلين الذين كان غودار التقاهم وصورهم، قتلوا لاحقا على يد الجيش الأردنى خلال أحداث «أيلول الأسود»، التى كان اندلاعها من أسباب توقف غودار المفترضة عن إكمال فيلمه.
إذا، طوال أعوام كان بين يدى غودار والفريق العامل معه ومن بينهم جان بيار غوران، شريكه فى أفلام مرحلته الأولى النضالية، سينمائيا، ألوف الأمتار المصورة. وفى عام 1972 أعلن غوران أن الفيلم سوف يكتمل فى شكل متجدد خلال شهور ضمن إطار نتاجات جماعة «دزيغا فرتوف» التى كانت تضم غودار وغوران... غير أن هذه الجماعة نفسها سرعان ما انفرطت أواخر ذلك العام لتختفى نهائيا فى العام التالى له، 1973.
وأثر ذلك، وإذ ظل معظم ما صوّر فى الأردن فى حوزة غودار، وظل هذا الأخير يفكر مليا بما يمكن فعله بها، انضمت آن – مارى مييفيل إلى غودار ليشكلا معا ثنائيا سينمائيا، أكثر ارتباطا باللعبة الجمالية وأقل ميلا إلى السينما النضالية الجامدة. فى رفقة مييفيل، راح غودار، يجدد فى رؤاه ويوسعها، حتى راح يغوص فى المسألة الإعلامية مركزا على دور التلفزة «الجديد» فى حياة الناس العاديين، من خلال ذلك الجهاز الصغير (التلفزيون) الذى كان قد بدأ ذروة غزوه للبيوت وبدأ فى الوقت نفسه غزوه للعقول. وعلى ضوء هذا الاهتمام، كان من المنطقى أن يستعيد غودار اهتمامه بالشرائط الفلسطينية، التى راح من جديد يصنفها مفكّرا من خلالها القضية الإعلامية، ومفكّرا فيها من خلال تلك القضية. وعلى هذه الحال ولد فى عام 1974 فيلم جديد من رحم الفيلم القديم. وصار الفيلم الذى كان يحمل عنوان «ثورة حتى النصر» فيلما داخل فيلم جديد تصل مدة عرضه إلى ساعة يحمل هذه المرة عنوان «هنا وهناك».
يتألف فيلم «هنا وهناك» من قسمين متداخلين... بل لنقل مترابطين: القسم الأول هو الفيلم القديم «ثورة حتى النصر» بينما يتألف القسم الثانى، الذى صوّر فى عام إنجاز الفيلم الجديد، من مشاهد لعائلة فرنسية عادية تجلس مقابل جهاز التلفزيون متفرجة على «ثورة حتى النصر» وعلى مجموعة مشاهد وصور أخرى. وفى سياق تلك الجلسة العائلية التى تبدو للوهلة الأولى غير ذات علاقة حقيقية بالصورة سواء أكانت فلسطينية أو غير فلسطينية، يدور نقاش حول الإعلام والثورة والـ «هنا» - أى فرنسا – والـ«هناك» أى فلسطين، أو أى مكان فى العالم. ومن خلال ذلك النقاش يبدو واضحا أن فيلم غودار هذا طرح مبكرا عددا من القضايا السياسية والاجتماعية والعائلية التى كانت بدأت تتحرك فى العالم فى ذلك الحين، وتحديدا من حول قضية الإعلام... هذا الإعلام الذى فى شكل مباغت أعطى للأحداث طابعا جديدا وللنظرة إليها سمات لم تكن متوقعة. وعلى هذا النحو إذا، لم ينقذ غودار فقط شرائطه الفلسطينية من النسيان، بل افتتح مجالا جديدا لتفكير السينما وتفكير الإعلام، سوف يشغل كثرا من المبدعين وأهل الرأى فى العقود التالية. وذلك فى هذا الشريط «الجديد» الذى أبكر قبل نصف قرن تماما من الآن، أى تحديدا منذ ما حول العام 1975، فى طرح تلك القضية الشائكة على خطى رحلته الفلسطينية ولكن أيضا على خطى قراءته المتعمقة لنصوص للمفكر الفرنسى غى ديبور أحد كبار المنظرين للمسألتين الاستعراضية والإعلامية وعلاقتهما بثورات الشبيبة وإخفاق تلك الثورات، ناهيك باهتماماته المتزايدة بأفكار فيلسوف البؤس، الفرنسى أيضا، بيار بورديو حول «بؤس العالم» و«قضية الإعلام المتجددة»… وهو موضوع إضافى يمكن العودة إليه يوما على أية حال.