مجيد طوبيا.. وجماليات السرد التراثى - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 5:12 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مجيد طوبيا.. وجماليات السرد التراثى

نشر فى : الجمعة 17 أغسطس 2018 - 9:25 م | آخر تحديث : الجمعة 17 أغسطس 2018 - 9:25 م

وأواصل الحديث عن أديبنا القدير مجيد طوبيا أحد أصوات الستينيات الجهيرة وصاحب التجربة الكتابية الراسخة والسرد البديع.
يقول مجيد طوبيا إن رغبة الإنسان فى سماع الحكايات وتـأليفها قديمة جدا،‏ وأنها كانت وراء ظهور أسطورة إيزيس وأزوريس،‏ تعبيرا عن الصراع بين الخير والشر،‏ ووراء إبداع السير الشعبية التى مزجت التاريخ بأحلام الناس،‏ ولولا ابتكار الكتابة لما وصلت إلينا هذه الأعمال‏.‏
يتتبع مجيد طوبيا فى واحد من مقالاته القديمة المهمة جذور الحكى الإنسانى كحاجة وضرورة ورغبة لا تنتهى، والبحث أيضا عن الجاذبية والسحر الكامنين فى «الحكاية»، كان مشغوفا باكتشاف هذا السر والوصول إلى هذا الجذر؛ يقول: «وبفضل حل لغز الكتابة المصرية القديمة،‏ قرأنا قصصا ترجع إلى عصر خوفو،‏ وحكايات تتحدث فيها الحيوانات،‏ كوسيلة تربوية تحث الصغار والكبار على الأخلاق وإعمال العقل‏.‏
وقد وصلت إلينا حكاية عن حطاب وأسد وفأر،‏ الأسد أقوى بدنا،‏ والحطاب‏ (‏الإنسان‏) أكثر ذكاء،‏ ينجح بدهائه فى تقييد الأسد بحبل،‏ والفأر رغم ضآلة جسده يتمكن من قرض هذا الحبل،‏ والصراع فى مجمله يدور بين قوة البدن وقوة العقل..‏ ويأخذ شكل حكايات متتالية،‏ الأولى تؤدى إلى الثانية التى تؤدى إلى الثالثة.. وهكذا،‏ وهو نفس الأسلوب الذى سوف تسلكه فيما بعد حكايات (ألف ليلة وليلة).‏
كان هدف هذه الحكاية أو الحكايات،‏ كما يقول طوبيا، إن يتمالك الإنسان أعصابه،‏ ويستخدم عقله لينجو من تحرش الأقوياء بدنيا‏.‏ وبالعلم بنى القدماء حضارتهم،‏ وعندما هجروا العلم وركنوا إلى الخرافات،‏ فقدوا قوتهم ثم حريتهم‏!».
ويضيف طوبيا أنه «فى زمن تأليف هذه الحكايات كانت الأحراش والمستنقعات تملأ وادى مصر ودلتاها،‏ حيث عاش فرس النهر والتمساح والخنزير البرى والسلحفاة المائية،‏ وفوق التلال عاشت بعض الأغنام والحمير والغزلان والوعول والضباع والذئاب،‏ والأسد المصرى الذى ظهر فى النقوش الفرعونية يجلس وديعا تحت قدمى الفرعون»‏.‏
بهذا الاقتباس ــ الذى طال قليلا ــ يمكن التعرف ولو قليلا أيضا على بعض جاذبية وجمال كتابة طوبيا السردية سواء فى قصصه القصيرة أو سردياته الطويلة، مجيد طوبيا ينتمى إلى جيل متمرد كان يبحث عن ذاته وعن خصوصيته، ويعى أن عليه أن يكتب فنه لا أن يقلد فن أحد. الجيل الذى أخذ أعلامه يشق كل منهم مجراه بحسب موهبته وثقافته ودأبه؛ الغيطانى وصنع الله وأصلان وبهاء طاهر والبساطى وعبدالحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبدالله و.. و.. سيبحث كل منهم عن ذاته فى سرد مختلف، وكتابة تسعى لمجاوزة الأشكال التقليدية والمألوفة واتجه الكثير منهم إلى التراث القديم لاكتشاف عناصره الحية واستلهامها فى كتابة جديدة بلغة جديدة وأشكال مستحدثة.
هذا ما فعله الغيطانى فى «الزينى بركات»، وعبدالحكيم قاسم فى «أيام الإنسان السبعة» ومجيد طوبيا فى «تغريبة بنى حتحوت» التى استلهمت تراث السيرة الشعبية العربية وعناصرها السردية؛ بكل ما اشتملت عليه من قصص وعجائب وغرائب وحكايات وأمثال وأشعار وأغان ومواويل.. إلخ.
سينسج مجيد طوبيا تغريبته البديعة على منوال تغريبة بنى هلال؛ فيقسم تغريبته الحتحوتية إلى تسعة عشر جزءا يشكل مجموعها رحلة بنى حتحوت إلى بلاد السودان، التى دامت أربعة عشر عاما، تعرض خلالها أبطال الرواية لما تعرض له بنو هلال فى رحلتهم الطويلة إلى تونس، من مصاعب كثيرة، وأهوال عظيمة..
أما فى روايتيه «دوائر عدم الإمكان» (1975) و«حنان» (1981) سيوظف مجيد طوبيا نصوص التراث الشعبى الحاملة للمعتقدات والتصورات والطقوس الشعبية فى تشكيل نص معاصر يحمل أسئلته الراهنة وهموم واقعه المعاصر. سيختلط الواقع بالحلم، والحقيقة بالخيال، وستظهر الفانتازيا فى واحدة من أنصع أشكالها دون تكلف أو إغراق فى الغموض (مثلما نجد فى الكثير من نصوصنا التى تدعى التجريب وتدعى الحداثة وهى أبعد ما يكون عن الاثنين!).
أما فى روايته المهمة «الهؤلاء»، وشأنه فيها شأن كل كتاب الستينيات، خاض مجيد طوبيا معاناة مواجهة القهر السياسى واستبداد السلطة وتعرية النفاق والتطبيل وتزييف العقول؛ وفضح الهؤلاء الذين يندسون كالجراد فى حياتنا يرتدون الأقنعة والبذلات الأنيقة ورابطات العنق أو يتنكرون فى أى هيئة أخرى لكنهم يظلون دائما «الهؤلاء» الذين يترصدون ويرقبون ويدونون التقارير السرية ويتجسسون على أقاربهم وذويهم وأصدقائهم.. إنهم آفة كل مجتمع مقهور محكوم بالبطش والاستبداد.. سيبحث مجيد طوبيا كما بحث غيره عن القناع والرمز الفنى الذى يمكنه من قول ما يريد دون أن يؤخذ بجريرة هذا القول!
وللحديث بقية..