فى يومها العالمى.. خواطر حول لغتنا العربية - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 5:46 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى يومها العالمى.. خواطر حول لغتنا العربية

نشر فى : السبت 17 ديسمبر 2022 - 8:10 م | آخر تحديث : السبت 17 ديسمبر 2022 - 8:10 م

ــ 1 ــ
اليوم، تحتفل منظمة الأمم المتحدة باليوم العالمى للغة العربية، ومنذ سنوات طويلة وأنا أيضا أحب الاحتفاء بلغتنا الجميلة على طريقة الدكتور طه حسين، الذى كان يردد برجع صوته العذب العميق «لغتنا يسر لا عسر»؛ إنها طريقة تجديد المعارف والوعى والإدراك بهذه اللغة، والعمل على تجديدها ومسايرتها لتطورات العصر ومواكبة التغير الهائل فى بنى المعرفة والمجتمع والإنسان.
وأظن أننا فى حاجة ملحة وضرورية طوال الوقت للنظر فى مناقشة قضاياها وإشكالاتها وهمومها والعمل الدؤوب على ترقية الوعى بها وإشاعة استخدامها بمعرفة حقيقية وأصيلة فى مناحيها الأربعة؛ قراءة وكتابة وحديثا واستماعا.

ــ 2 ــ
كانت ماهية أو طبيعة العلاقة بين اللغة العربية والدين موضوعا رئيسيا فى كل المناقشات والبحوث والدراسات التى دارت حول اللغة العربية وتاريخها، وكلها يؤكد أنها علاقة جد وثيقة ومعقدة وملتبسة أيضا، فما كان للغة العربية أبدا أن تشهد ما شهدته من انتشار وازدهار لولا دعوة الإسلام، فالقرآن نزل بالعربية، وحول القرآن الكريم دارت الحركة العلمية بأكملها التى سعَت إلى تقنين القواعد اللغوية، وجمع اللغة والمفردات، وتدوين العلوم العربية، فضلا على دراسة مكامن الإعجاز فى النص القرآنى، ومن ثم صار الارتباط وثيقا بين اللغة وبين الدين.
ويكاد يُجمع مؤرخو علم اللغة العربية أيضا أن القرآن قد منح اللغة العربية أولى مراحل تطورها وتجديدها، بفضل القرآن نفسه، فهو لم ينزل إلا باللغة المعروفة لدى العرب، غير أنه توسع فى دلالات كثيرة من ألفاظها، منتقلا بها إلى آفاق جديدة تلائم المجتمع الإنسانى الجديد الذى بشرت به دعوة الإسلام.
وقد رصد غير باحث وأستاذ متخصص فى علوم اللغة وتاريخها وتطورها ذلك التطور البين فى الألفاظ المتعلقة بالعبادات والتشريع الذى ينظم حياة المسلمين فى مجتمعهم الناشئ، بعد أن انتقلت من مجموعة من القبائل المتنافرة إلى مجتمع إنسانى متجاوز للجنسيات والأعراق واللغات، وكان ذلك خطوة أولى ــ كما يقول أستاذنا الدكتور مكي ــ فى تطور العربية تبعتها خطوات أخرى فسيحة حينما تحولت هذه اللغة من وسيلة للتعبير بين سكان الجزيرة العربية إلى لغة العالم الإسلامى كله الذى امتد من أواسط آسيا وتخوم الهند إلى شطآن المحيط الأطلسى فى المغرب والأندلس، ناسخة ما كان مستخدما فى تلك الرقعة المترامية من اللغات.
ــ 3 ــ
كان القرآن عاملا من عوامل استقرار العربية، باعتباره مرجعا لغويا، بل المرجع اللغوى الأمثل فى نظر الذين وصفوا العربية وقنَّنُوها. لا شك أنه نزل بلسان عربى مبين، لا شك أن نصه لا يختلف عما دأب عليه العرب من عادات لغوية، لكنه نص فريد من نوعه، ولعل العبارة المشهورة التى نطق بها طه حسين تبرز هذه الخصوصية الفريدة «ليس شعرا ولا نثرا وإنما هو قرآن».
يمكن أن نعتبر أن تلاوة القرآن فى حد ذاتها لها دور مهم يتمثل فى جعل العربية مألوفة ومحببة فى أسماع العربى، مألوفة عند الأمى والمتعلم، عند الذى يفهم معانيه، والذى ليست له القدرة على فهمها. وقد لا نبالغ إن قلنا مع الدكتور عبدالقادر المهيرى إن تلاوة القرآن ضمنت بقاء الناس على صلة بالعربية الفصيحة، وساعدت على ألا تصبح فى أنظارهم لغة أجنبية، بل غريبة عنهم، وإن لم يفهموا ما تؤديه من معان.
والواقع، وكما يقول الدكتور المهيرى، أن ما رُوى عن العرب قبل الإسلام من نصوص غلب عليها الشعر، ولم ينقل عنهم سوى نتف قصيرة من الكلام النثرى، أى من كلام ليس فيه من تنوع للمواضيع، وتصرف فى الأشكال ما يوفر نماذج يحتذيها الخلف ليطوعوا العربية حسب مقتضيات خطاباتهم، ومتطلبات مواضيعهم، ومنعطفات تفكيرهم، وحاجيات إبداعهم.
من هنا كان القرآن أوسع نص، وأشمله لثوابت العربية، وأوعبه للإمكانيات الكامنة فيها. وبعبارة مجملة فقد فتح بابا للتعبير لم يكن مألوفا قبل الإسلام، التعبير بغير الشعر لتناول مفاهيم ومواضيع خارجة عن نطاق الشعر. وعلى هذا النص المقدس اعتمد النحاة واللغويون لوصف اللغة العربية، ووضع قواعدها ومن ثم صيانة ثوابتها.
ــ 4 ــ
ومن ثمّ، مثلت أعمال اللغويين والنحاة ما نسميه اليوم بالتراث النحوى اللغوى، إنه تراث ثرى قائم على فكر ثاقب، وقدرة عجيبة على الوصف والتحليل والاستنتاج والتأليف، نابع من الثقافة العربية الإسلامية السائدة، وليس مستمدا كما ادعى البعض، من التراث اليونانى، وإن تأثر ببعض مقوماته إلى حد ما فى مرحلة من مراحل تاريخه المتأخرة، لكن ذلك لم يقضِ على طرافة هذا التراث، وتأصله فى الثقافة العربية الإسلامية.
لا جدال فى أن علوم اللغة ما انفكت تتفاعل مع غيرها من العلوم والمعارف، وما انفك التفكير فى هذا المجال يتأثر بالعلوم الإسلامية أولا وبالذات، وأوضح دليل على ذلك شعور النحاة فى القرن الرابع خاصة بالحاجة إلى تزويد علم النحو بأصول مستوحاة بما قام به الفقهاء فى مجالهم، ولا يتردد ابن جنّى مثلا فى إقرار ذلك عندما قال: «لم أرَ أحدا من علماء البلدين تعرض لعلم أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه»، ولذا وضع كتابه الباهر «الخصائص».
لا أظن أن أحدا يمكن أن يختلف حول هذه الفكرة/ الأفكار حول علاقة القرآن باللغة العربية، وعلاقة الدين عموما بتطور اللغة العربية ونشأة علومها الأصيلة كالنحو والبلاغة واللغة (المفردات والمعاجم)، أما ما ترتب على هذه العلاقة من إشكالات معقدة نحَت بتسييد تصورات غير علمية عن «اللغة»، وإضفاء القداسة على هذه التصورات، ومن ثم وضع قيود على دراستها أو الاقتراب منها، فأظن أن الأمر قد تغير تماما فى القرنين الأخيرين مع نشوء الجامعات وانتشار العلوم الإنسانية، ودرسها درسا علميا معاصرا، وفى القلب منها اللغة بشكل عام، واللغة العربية بشكلٍ خاص.