نشر موقع صدى كارنيجى حوارا أجراه المحرر «فاضل على رضا» مع البروفسور «تشارلز تريب» ــ أستاذ السياسة فى كلية الدراسات الشرقية والأفريقية فى جامعة لندن ــ بشأن دراسته الأخيرة عن الحيزات العامة وتأثيرها وتطور أهميتها وأهمية تناولها بالدراسة فى الفترة الأخيرة، وقد ركز فى دراسته على الحالة التونسية إبان الثورة، والصراع من أجل الحصول على حيز فى الشأن العام. فيقول «رضا» إن دراسة تونس وسياساتها قد اكتسبت رواجا من جديد منذ اندلاع الانتفاضات العربية، وأحد الأسباب هو توافر مزيد من المعلومات عن البلاد وشئونها. ففتح الحيزات التى كانت مغلقة أو خاضعة لسيطرة مشددة سابقا يتيح للباحثين والصحفيين والأكاديميين فرصا لاستكشاف المسائل بطريقة نقدية ومعمقة.
وفى البحث الأخير الذى أجراه البروفسور تشارلز تريب فى إطار «سلسلة أوراق العمل» الصادرة عن مركز الشرق الأوسط فى كلية الاقتصاد فى لندن، يستكشف تريب التأثيرات السياسية لانفتاح الحيزات العامة. ويعتبر أن إعادة تعريف الحيز، والصراع على ما هو «عام»، وما يشكل شأنا عاما، يؤشر إلى حدوث تغيير جوهرى فى ممارسة السياسة فى تونس. فما نشهده فى الأعوام الأخيرة، مع كل تعقيداته، هو ترسيم التونسيين لحدود «جمهورية تونسية» جديدة.
فى هذا الإطار طرح المحرر «رضا» سؤالا عن ما جذب انتباه البروفسور تشارلز للاهتمام بمسألة الحيز ودوره فى السياسة فى تونس. وكان رد البروفسور بأنه اهتم لبعض الوقت بدراسة الحيز الحضرى وتحديدا طرق تصميمه بهدف ترسيخ أشكال معينة من السلطة، بالإضافة تحول الحيز إلى موضوع الصراع وموقعه بالنسبة إلى من يحاولون تحدى الوضع القائم. مع اندلاع الانتفاضات فى تونس وأماكن أخرى فى مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، زاد اهتمام البروفسور ــ لا سيما وأن الجزء الأكبر من الصراع السياسى تمحور حول احتلال الحيز العام جغرافيا، من قبَل القوى الأمنية ومئات آلاف المواطنين، وكذلك عن طريق إعادة تملك رمزية للمواقع، حيث كان الحكام الديكتاتوريون يؤكدون حضورهم وسيطرتهم ويروجون لهما.
وانتقل «رضا» لنقطة أخرى فسأل «تريب» عن أهمية الحيز الجغرافى أو المؤسسى فى دراسة السياسة وسط استمرار البؤس الاقتصادى والاستقطاب العقائدى والمشاغل الأمنية.
وجاء رد «تريب» بأنه يجب عدم النظر إلى «الحيز» على أنه مجرد مكان جغرافى. بل إنه يكمن، فى أشكاله المكوَنة اجتماعيا ــ الرمزية والمفهومية والخطابية، فضلا عن المؤسسية والجغرافية ــ فى قلب علاقات السلطة لأنه يمكن أن يؤمن الأرضية للتعبير عن المصالح السياسية المتنافسة. فى تونس، كما فى أماكن أخرى، وفى هذا الإطار تحديدا، يمكن لأشكال الإقصاء المنهجية الناجمة عن التفاوت الاقتصادى بين الطبقات والمناطق، أن تشق طريقها عنوة نحو جدول الأعمال العام ــ كما حصل فى 2010ــ2011 وأخيرا فى مطلع 2016.
وأضاف «تريب» أن المواطنين يستطيعون، عبر نقل مطالبهم إلى المساحة العامة، أن يتحدوا أشكال الإقصاء التى غالبا ما تكون خفية والتى قد تحرمهم من حقوقهم. للسبب عينه، يمكن أن تتحول هذه الحيزات إلى المكان، حيث يتجلى الاستقطاب الأيديولوجى ويتبلور، وغالبا ما يؤدى إلى تعميق الانقسام، حيث يتخذ المواطنون مواقف فعلية أو رمزية بعضهم فى مواجهة البعض الآخر. لهذا تصبح القوى الأمنية التى لم تخضع لإعادة بناء، شديدة القلق ما يدفعها إلى اللجوء إلى وسائل القمع القديمة لفرض نظام معين من وجهة نظرها الخاصة باسم «السلم الاجتماعى».
***
وأشار «رضا» إلى ما تناوله «تريب» فى دراسته الأخيرة، والتى تم التركيز فيها على «الجمهورية» بدلا من «الدولة»، وسأل عن مدى ملاءمة هذا المفهوم لتونس تحديدا، نظرا إلى تاريخها ومؤسساتها، أو عن إمكانية أن يثمر هذا المفهوم عند دراسة بلدان تشهد، بحسب الاعتقاد الشائع، «انهيار الدولة».
وهنا استطرد «تريب» فى تلك الفكرة قائلا إن فكرة وواقع «الجمهورية» طريقة لتجسيد المثل العليا لمشروع سياسى مشترك، ليس لناحية مضمونه الموضوعى، إنما لناحية المبادئ الأساسية التى تشكل الإطار لسياسة عدم السيطرة. أى يجب أن يحظى جميع المواطنين فى الجمهورية بحقوق متساوية للمشاركة فى صناعة مستقبلهم المشترك ضمن إطار من القوانين والمؤسسات (الدولة) ينبثق من المداولات العامة ويكون خاضعا للمساءلة أمام الرأى العام. هذا هو الأمثل.
بالطبع، فى تونس كما فى أماكن أخرى، اختلف واقع السياسة ما بعد الاستعمارية إلى حد كبير عن المثال الأعلى الجمهورى. وجب الانتظار حتى 2010ــ2011 كى تعيد الأحداث تأكيد هذا المثال الأعلى فى مواجهة من اختطفوا أشكال الجمهورية تحقيقا لمآربهم الخاصة. تَظهر جاذبية «الجمهورية» من خلال السرعة والحماسة اللتين بادرت بهما دول أخرى فى المنطقة إلى السير على خطى النموذج التونسى، من دون أن تكتفى فقط بتبنى المثل العليا للجمهورية الضائعة، إنما شاركت أيضا فى إعادة صنع الرأى العام كقوة سياسية. مجددا، كشفت دورة الأحداث المروعة خلال الأعوام القليلة الماضية فى ليبيا ومصر وسوريا واليمن والبحرين، أن التطلعات الجمهورية ليست كافية. بيد أن واقع أن هذه التطلعات لاتزال حاضرة بقوة تجلى أيضا فى التظاهرات الحاشدة الأخيرة فى سورية (منذ وقف إطلاق النار) واليمن ولبنان والعراق. اللافت هو أنه فى كل هذه البلدان، احتاج الأمر إلى خلق حيز (لفترة مؤقتة على الأرجح) كى يظهر الاحتجاج الجمهورى من جديد. لأسباب مختلفة، جرى تقييد هذه الحيزات وإغلاقها فى ليبيا ومصر والبحرين.
يرى «رضا» أن كثرا هم من يعتبرون أنه يعود لمؤسسات «الدولة القوية» فى تونس الفضل فى مساعدة البلاد على تجنب حدوث أعمال عنف أوسع نطاقا بعد العام 2011. وتساءل إذا كانت «الدولة» أوثق ارتباطا بالاستقرار فى حين أن «الجمهورية» يُعاد تعريفها بصورة دائمة، فهل يعنى ذلك أنه من الأسهل على الحركات الشعبية بناء جمهورية جديدة بدلا من إصلاح الدولة؟
فأجاب «تريب» بأن المؤسسات التونسية وتفاعل المواطنين التونسيين المعهود معها، ساهم فى الحول دون أن تسلك الأمور منحى مختلفا، لا سيما الحول دون وقوع أعمال عنف وحرب أهلية كما حدث فى أجزاء أخرى من المنطقة. بيد أنه يجب عدم الاعتبار بأن أعمال العنف والحرب الأهلية تتعارض مع الجمهورية. بل إن ما حدث فى 2010ــ2011 هو السعى إلى جعل تلك المؤسسات خاضعة للمساءلة أمام الشعب وإعادة تأسيسها بالاستناد إلى المثل العليا الجمهورية التى من شأنها أن تجعلها متاحة للجميع بدلا من أن تكون حكرا على قلة قليلة. فى هذا الصدد، كان لافتا أن هذه الإجراءات لم تشمل المؤسسات الحكومية وحسب، إنما أيضا المؤسسات غير الحكومية، مثل الاتحاد العام التونسى للشغل الذى استعاد أعضاؤه السيطرة عليه ــ بعدما كانت قيادته مقربة من النظام القديم.
كما فى بلدان أخرى، كذلك الأمر فى تونس، كانت استعادة أجزاء من الأجهزة المؤسسية فى الدولة أقل سهولة، لا سيما فى حالة وزارة الداخلية التى تمسك موظفوها بفكرة أنهم يمثلون شكلا من أشكال «الاستقرار» يضع ادعاءاتهم فوق ادعاءات الباقين، وهم يعتقدون بالتالى أن الرأى العام خاضع للمساءلة أمامهم بدلا من العكس. ثمة سلوكيات مماثلة مستمرة فى إدارات أخرى فى الدولة، كما فى بعض أوساط حزب نداء تونس.
***
وهنا تطرق «رضا» إلى ما كتبه البروفسور «تريب» عن أن التونسيين الذين يملكون رؤى مختلفة عن الجمهورية ــ بورقيبيين، وأتباع بن على، وعلمانيين، وإسلاميين، وديمقراطيين اجتماعيين ــ اتفقوا حتى الآن على أن «الجمهورية، على الرغم من عيوبها المحتملة، تقدم بديلا أفضل من السيناريوهات» التى تنكشف فصولا فى المنطقة. وسأل أخيرا «إذا كان المثال الأعلى الذى تجسده «الجمهورية» رائجا فى مختلف أنحاء المنطقة، فهل عامل الفرق هو أن التونسيين ينجحون فعلا فى تجسيده؟».
فقال «تريب» إنهم يتشاركون أفكار الحيز السياسى. حتى لو كانوا يختلفون حول المادة التى يجب أن تملأ هذا الحيز أو حول الطريقة التى يجب أن يتصرف بها الأشخاص داخل الحيز، من حق جميع المواطنين التونسيين دخول هذا الحيز والمشاركة فى النقاشات التى يحفزها. لا يعنى هذا أن جميع الأفرقاء يتبادلون الثقة، أو أنهم راضون عن أداء المؤسسات فى الجمهورية، لكن مع ذلك، تبقى مزاولة السياسة ضمن هذا الإطار أمرا منطقيا. من الواضح أن هناك عوامل اجتماعية واقتصادية وأيديولوجية تلقى بضغوط شديدة فى هذا المجال، لذلك يجب عدم الافتراض بأن ما تحقق فى تونس محصن من هذه الضغوط، ويجب عدم التقليل من شأن المخاطر التى يمكن أن تُحدق بالجمهورية جراء ذلك. ويختتم بأنه من المهم التوقف عند ماهية العوامل التاريخية أو المعاصرة التى منحت التونسيين هذه الفرصة لإعادة تعريف الحيز الجمهورى باعتباره حيزا للخلاف السياسى الهادف إنما المقيد بحدود بدلا من أن يكون من دون حدود.