في أول عمل أدبي لسامح فوزي بعنوان "حدث في برايتون" نطير مع بطلته منّة الله من قريتها الصغيرة في صعيد مصر إلى مدينة برايتون جنوب شرق بريطانيا لنعيش معهما لحظة اكتشاف الآخر على الضفة الأخرى من العالم. اختار المؤلف جامعة ساسكس لتحصل منها بطلة روايته على الماچستير والدكتوراه في العلوم كما سبق له أن حصل هو على درجة الماچستير من الجامعة نفسها في تخصص التنمية السياسية. وقبل نحو ثمانين عاما اختار توفيق الحكيم بطله محسن في رواية "عصفور من الشرق" ليوُدعَه كل التساؤلات التي اشتعل بها رأسه هو ذاته عندما زار فرنسا لأول مرة، وهذا فارق مهم بين رواية توفيق الحكيم ورواية سامح فوزي، فعصفور الحكيم هو بمثابة "دوبلير" له، أما عصفورة فوزي فإنها واحدة من الشخصيات التي التقى بها في أثناء رحلته الدراسية. مثل هذا الاختلاف في طبيعة الأدوار أدى لاختلاف الأسئلة المطروحة لكل من محسن ومنّة الله، فمحسن الذي تكسرت أجنحته عندما خذلته سوزي حبيبته الفرنسية انشغل بقضايا كبرى عن روحانية الشرق ومادية الغرب، أما منّة الله التي غيّرتها الغربة وأنبتت لها جناحين طارت بهما إلى حيث لم تكن تتوقع أبدا، هذه المنّة اهتمت بقضايا تفصيلية في رحلتها للبحث عن ذاتها لا بل لإعادة اكتشاف ذاتها. ثم أن محسن حمل تساؤلاته إلى المجتمع الذي عاش فيها فأدار حوارا بل حوارات مع صديقه الروسي إيڤنوڤوفتش الذي قرأ الكتب السماوية الثلاثة وودّ لو طار من الغرب إلى الشرق لكن الموت عاجله، أما منّة الله فعدا بعض الحوارات القصيرة مع الغير فإن حوارها كله كان يدور في داخلها ومع داخلها.
***
ذهبت منّة الله إلى برايتون وقد حملت داخلها طبائع المجتمع الذي عاشت فيه عمرها كله حتى تخرجت من كلية العلوم: الخوف من الحسد الذي جعلها تخفي خبر المنحة عن صديقتها صفاء ، والفضول الذي دعاها للتطفل دون مناسبة على الراكبة الإنجليزية في المقعد المجاور لها علي الطائرة، والاستخفاف باللوائح حتى أنها كسرت إشارة المرور في أريحية تامة لا تدري أنها كان يمكن أن تدفع حياتها ثمنا لهذا الخطأ، وقلة الخبرة فإذا هي تصعد الأوتوبيس رقم ٢٥ وقد تبضعت بما يصعب حمله مجتمِعاَ: لحاف وحلّتان وأدوات طعام وبعض المأكولات، والدهشة من سلوك المختلف عنها في الدين فلم تدر كيف لماريانا صديقتها المكسيكية أن تترك أشياءها الخاصة جدا في الحمام المشترك، ورغم هذه الدهشة فإنها لم تتردد في استخدام شامبو ماريانا دون استئذان وهذا جزء من جهلها بمعني الخصوصية. لاحقا سوف تتخلى منّة الله عن هذه الطبائع وتتحول إلى شخص آخر تنسجم طبائعه مع المجتمع الذي يعيش فيه، وإن كانت لي ملاحظة في هذا الخصوص فهي إنما تتعلق بالمدى الزمني القصير الذي استغرقته الموجة الأولى من موجات التغيير في شخصية منّة الله، وهناك عدة مواقف كاشفة لهذه السرعة. لكن الموقف الأكثر دلالة هو رد فعل منّة الله حين رأت والد زميلها الكوري يحمل صندوقا خشبيا يحوي رماد جسد ابنه المتوفي بعد حرقه طبقا للتعاليم البوذية، لم تندهش منّة الله ولا حتى استثار هذا الموقف فضولها، لكنها تعايشت مع هذا الموقف "الصعب" ولم تملك سوى "الدعاء" للمتوفي . بدا لي سلوك منّة الله لا يتسق مع طبيعتها وهي التي كانت تجهل كل شيء تقريبا عن المسيحيين المصريين فما بالنا بالبوذيين ؟ والأهم أن هذا التقبل لفكرة الاختلاف والتنوع حدث بعد شهور قليلة فقط من إقامتها في برايتون، وبالتالي فإن فكرة الدعاء لبوذي في هذه المرحلة المبكرة بدت غريبة. عادة ما يكون التغيير في موجته الأولى مرتبطا بالشكل الخارجي دون الجوهر، طرحة أقصر أو تيربون، چوب أقصر بضعة سنتيمترات، بعض الماكياچ الخفيف ، أما تعديل القناعات وتطوير النظرة للآخر المختلف بل شديد الاختلاف فأظنه يحتاج أن يأخذ راحته وينضج على مهله.
***
في روايته الأولى يبدو سامح فوزي قادرًا على نسج شبكة واسعة من العلاقات بين شخصيته الرئيسيّة وشخصيات أخرى في الرواية، وبعضها كان توظيفه جيدا جدا، كما في شخصية القس فيليب الذي فتح عيني منّة الله على أن الحرية لا تصححها إلا الحرية. وفي سلوك بعض الشخصيات يجد القارئ رسائل مبطنة كما في المقابلة بين شخصية اصطفانيا الفتاة المالطية المتدينة وچيزام الفتاة التركية المتحررة، والرسالة هي أنه لا توجد فضائل أخلاقية حكرا على المنسوبين لدين بذاته فالمسلم والمسيحي كلاهما يصيب ويخطئ. آتي لأسلوب المؤلف وهو أسلوب له طابع بحثي ويعكس تخصص صاحبه، فعلى امتداد صفحات الرواية تتناثر التعبيرات التنموية كما في الحديث عن المجتمع السائل وخصائص دول العالم الثالث، ويذكّرنا الصراع بين الذات الظاهرة والذات العميقة بالصراع بين إرادة التغيير والدولة العميقة، أو لعل هذا إسقاط تلقائي من جانبي تأثرا بما يدور حولنا في المنطقة العربية. أما أطرف ما في هذا العرض أن صلة كل من مؤلف الرواية وصاحبة هذه الانطباعة بالأدب هي في الأساس صلة نسب، فكلانا ينتمي لحقل العلوم السياسية لكننا معا نجد إغراء فيما يبدو للدخول إلى هذا العالم الرحب حيث الخيال مطلق ولا يعترف بمواءمات السياسة، فتحية للمؤلف سامح فوزي على خوضه تجربة الكتابة الأدبية وأظن أن هذا المجال كسب موهبة واعدة نحتاج إليها.