لم تكن قد انقضت سوى ساعات قليلة بعد انطلاق الانتخابات الرئاسية عندما بدأت كتابة هذه السطور. كان السؤال حتى أمس الأول يختص بما إذا كان حزب العدالة والحرية سيصر حتى النهاية على المشاركة فى الانتخابات، أم سينسحب ولديه من الأعذار الكثير ليبرر انسحابه أمام ناخبيه وجماهيره وأعضائه. وقد أصر. وبإصراره على الاستمرار فقد فرض علينا سؤالا مختلفا.
بيننا أبرياء كثيرون، وأقصد بالبراءة توافر قدر لا بأس به من حسن النوايا والاستقامة والشفافية. هؤلاء افترضوا منذ وقت غير قصير أن القائمين على حزب العدالة والحرية لابد وأنهم أعدوا عدتهم ليوم ظهور نتيجة الانتخابات الرئاسية، إن خرجوا فائزين أم خاسرين، بل لابد أنهم كانوا مستعدين منذ يناير فى العام الفائت بخطة طريق تحدد لهم بالتفصيل الممكن والتقدير المناسب المسالك التى سيتعين عليهم اتخاذها والدهاليز التى سيدلفون منها وإليها. ظن الأبرياء من المراقبين، وكثير منهم من البسطاء، أن رجالات هذا الحزب لن يتركوا حجرا على الطريق لا ينظرون تحته، ولن يهملوا تصريحا صادرا عن المجلس العسكرى أو إشاعة بثها وروجها قريب منه بل سيخضعونه للفحص والتدقيق وجس النبض والنوايا. ظن هؤلاء المراقبين، وبعضهم مشفق وأكثرهم واثق ومطمئن، أن التنظيم الذى عايش وعاصر أنظمة شتى من الحكم، قد نضج ببلوغه الثمانين من عمره متشبعا بتجارب وخبرات لم تتوافر لتنظيم آخر فى العالم الثالث بما فيها التنظيمات الشيوعية على اختلاف مشاربها. كان الظن أنه بما بلغه من نضج وحكمة قادر على فهم ما لا يستطيع فهمه تيار آخر فى مصر وكلها أصغر عمرا وأقل شعبية وأضعف تمويلا.
لا أعرف تيارا آخر خبر نظام الحكم العسكرى أو المتعسكر كما خبرته جماعة الإخوان المسلمين. لا يحتاج الأمر لوقت طويل أو خبرة سياسية عميقة ليدرك المراقب أن التيارات الليبرالية فى مصر، وبمعنى أدق الشخصيات التى اختارت أن توصف بالليبرالية، تتعامل مع الحكم العسكرى وتجاربه وتاريخه وقواعد عمله كما يتعامل الطفل المدلل فى عائلته، يريد من أبويه ردع شقيقاته وأشقائه وحرمانهم من متع الحياة وسلب الدمى التى فى حوزتهم ، يريد منهما التفنن فى تطويعهم وتهذيبهم فى وجوده. يريد أن يكون الأقرب لهما و يظل المفضل لديهما، فهو الودود دائما، لا يغضب وإن غضب فإرضاؤه سهل وميسور، يكفى لإسكاته هامش حرية قابل للانكماش ووعد بحقوق لا ينفذ ومناصب مصحوبة بمزايا ومكانة.
●●●
ماذا أعد الإخوان المسلمون ليوم يفوزون فيه بمنصب رئاسة الجمهورية بعد أن فقدوا المجلس التشريعى، أو ليوم يخسرون فيه الانتخابات الرئاسية فتتضاعف هزيمتهم بخسارتين متلاحقتين، خسارة فقدان السلطة التشريعية وبعدها خسارة السلطة التنفيذية.
لن نجد إجابة سريعة شافية لهذا السؤال لسببين على الأقل، أولهما أن الإخوان جاءوا بعد الثورة ليتعاملوا مع النظام السياسى بمن فيه من خصوم وحلفاء على حد سواء، بالأسلوب الذى اشتهروا به حقا أو ظلما عبر سنوات القمع والتشريد والتنظيمات السرية، وهو أسلوب الكتمان والسرية والشك فى كل شىء وكل شخص غير إخوانى الانتماء أو الارتباط. سبقتهم فى ميادين الثورة ثم فى دوائر الحوار والتفاوض سمعة أن الحقيقة عندهم غير واضحة وصريحة رغم أن الجماعة بأسرها، منذ يوم نشأتها، رفعت شعار الحقيقة باعتبار أن الدين، الذى هو دستورها، حقيقة واضحة وناصعة.
●●●
على امتداد عام ونصف العام كانت تجربتنا كمحللين سياسيين ومتابعين ومهتمين بالإخوان جماعة وأفرادا، تجربة فى الغالب محبطة، حاول البعض منا أن يعرف مثلا كيف يفكرون سياسيا، كيف اختاروا شخصا ما ليدخل انتخابات لمنصب سياسى مرموق. كنا أمام برنامج سياسى محرر منذ عقود ويفتقر إلى تفاصيل التحولات التى طرأت على الواقع الذى أخرج إلى الوجود جماعتهم قبل ثمانين عاما. كان واضحا أن الحزب، إن وصل إلى الحكم، فسيعتمد على قواعده المدربة على الدعوة وليس إلى قواعد حزبية مدربة على العمل السياسى وتجميع المصالح وتجنيد كوادر جديدة «مدنية» وليست دينية، بمعنى آخر لم نر جهدا واضحا فى محاولة لبناء حزب سياسى، وإنما رأينا جهدا واضحا لوضع لافتات حزب سياسى تختفى وراءها حركة دعوية دينية، وشتان ما بين الهدفين.
●●●
لن نعرف بالتأكيد، أو حتى بالتقريب ما ينوى الإخوان المسلمون أن يفعلوا فى الحالتين، حالة فوزهم بمنصب رئاسة الجمهورية، وحالة خسارتهم هذا المنصب. لن نعرف ليس فقط لأنهم لا يريدون أن يعرف أحد من خارجهم ماذا يفكرون وماذا يريدون، ولكن أيضا لأن الملقى على عاتقهم من قرارات وتحركات داخلية وخارجية صعب وثقيل وباهظ التكلفة. ولا يخفى علينا كقراء سياسة أن قرارات بعينها يحتاج تدبرها وصنعها إلى «ثورة» داخل الإخوان، ثورة فى النهج والأسلوب ونمط القيادة و«هرمية» السلطة ونظام صنع القرار، وكلها تحتاج إلى وقت أطول بعض الشىء من شهور وأطول بالتأكيد من أسبوعين.
وقفت الإخوان كجماعة معظم حياتها تواجه «النقيض الملازم»، وأقصد الطرف الآخر فى معادلة وجودها وهو «النظام العسكرى»، الذى حكم مصر تحت مسمى أو آخر مدة ستين عاما. هنا فى هذه المعادلة حيث يوجد الغموض مكثفا والكتمان معمقا فى الإخوان المسلمين، يوجد الطرف الآخر الذى لا يخفى أهدافه وخططه حتى إن لم يعلن عنها. عرفناها منذ أيامه الأولى فى حكم مصر وكل السياسيين ومن اقتربوا من السياسة والقضاء والجامعات يعرفونها حق المعرفة. الشعب المسيس، وبخاصة من تسيسوا خلال عام ونصف العام وهم كثيرون يدركونها وغير غافلين عنها. هدف العسكريين، كما نعرفه ويعرفونه، هو الوفاء بعهد مكتوب أو عرفى بأن الجيش المصرى مسئول عن حماية مصر، أرضا وبحرا وجوا وشعبا ومؤسسات واقتصادا وأمنا. هذا الهدف لا ينكره مسئول عسكرى، قد يردده مجزأ مع أنه لم يوجد فى معظم تاريخنا الحديث ما يمنعه من أن يصر عليه مكتملا شاملا.
●●●
قد نجد جذورا لهذا الهدف «المتوسع» أو لهذه العقيدة «الشمولية»، فى تراثنا «الإسلامى» بدءا بعصور الخلافة. ثم فى عصور الاستعمار عندما كان الجيش البريطانى يقوم بهذه المهام مجتمعة، ثم تجسدت مرة أخرى فى انقلاب عسكرى تحول إلى ثورة قبل أن يصبح «نظام حكم».
على ضوء هذا نستطيع أن نخمن ما يريده المجلس العسكرى أن يحدث فى مصر فى حال فوز ممثل الإخوان أو ممثل المؤسسة العسكرية فى انتخابات الرئاسة. نعرف أنه فى الحالتين لن يقوم بين يوم وليلة فى مصر «نظام مدنى» لأول مرة منذ ستين عاما، لن يحدث مهما صدرت دعوات وتعالت أصوات وصدقت نوايا أو خدرتنا أحلام.
ومع ذلك فالحلم ليس مستحيلا، وإن كان غير قابل للتحقيق عاجلا كما توهم كثيرون فى الميادين وخارجها، وما كان يمكن على كل حال أن يتحقق فى عام ونصف العام طالما وجد فى مصر هذا الفريق من الليبراليين الذى وقف مؤازرا، فى العلن أحيانا وفى غير العلن أحيانا أخرى، سياسات الحاكم المستبد الذى اتخذ فزاعة الإخوان ذريعة لتفادى الإصلاح والممارسة الديموقراطية. والآن لا يخفى جناح مهم فى هذا الفريق مؤازرته تأجيل اتخاذ إجراءات حقيقية تنبئ باستعداد «النظام» العسكرى نقل السلطة إلى نظام مدنى، قبل أن يحل لهذا الفريق مشكلة الإخوان. لن يتحقق هذا الحلم فى أجل قصير طالما استمرت نية هذا الفريق فى أن يجهض له المجلس العسكرى المشروع الدينى، والعودة بعدها إلى حالة الدولة المتحررة من سلطة الدين السياسى ولكن الخاضعة لتحالف مدنى عسكرى، ويكون مفهوما لدى الجانب المدنى قبوله غير المشروط بالهيمنة العسكرية.
●●●
أفهم، وإن كنت لا أتفهم، ما يتردد فى هذه الساعات الأخيرة وبتصعيد ملحوظ، من أن الشهور القليلة الماضية أثبتت أن مصر لن تعيش آمنة ومستقرة، وإن بحريات أقل ومكانة إقليمية ودولية متدنية، أى تماما كما عاشت ثلاثين عاما، إلا تحت وصاية هيئة أو قيادة عسكرية تمثل كل أسلحة القوات المسلحة وأجهزتها الأمنية.
قد تأتى هذه القيادة، فى مرحلة ما، برئيس مدنى ولكن من أصل عسكرى، أو رئيس مدنى ولكن بترشيح الهيئة العسكرية ورضاها الكامل.
هذا لا يمنع، ولن يمنع، قيام أحزاب سياسية من كل الألوان والطموحات والأطماع، تعمل فى إطار يضع حدوده الحرس العسكرى بالتوافق مع بعض القوى «المتحمسة لأمل الدولة المدنية»، ولن يسمح بانضمام القوى المستندة إلى أسس دينية إلا بعد إعلانها الالتزام بشروط هذا الإطار الجديد للنظام السياسى المصرى.
●●●
أين الثورة فى هذه الصورة من صور مستقبل بدأت صياغته منذ لحظة رحيل مبارك عن قصر الرئاسة؟ الإجابة عندى واضحة ولا لبس فيها ولا تعنى تفاؤلا مبالغ فيه أو عنادا مع العدميين الذين قرروا أنها لم تنشب أصلا. الثورة أراها مازالت فى شهورها الأولى تحبو. لم تجهض ولم تختطف. ولدت ومعها أكثر من نقيض. عاشت معهم، توافقوا حينا وتقاتلوا أحيانا. ولكنها استطاعت أن تفرض واقعا جديدا وتفتح النقاش صريحا وقويا حول أمور كانت من المحرمات، ومن بينها علاقة المدنى والعسكرى وعلاقة المدنى بالدينى، ولكنها فرضت ما هو أهم، فرضت على الجميع العلم بخريطة حقيقية للمجتمع المصرى نتيجة أول عملية فرز تجرى فى المجتمع المصرى.
لأول مرة يعرف المصريون حدود قوة كل من صّور نفسه خلال الثلاثين أو الستين عاما عملاقا وكل من صوروه فزاعة. يعرفون أيضا مدى التزام وصدقية وأمانة القيادات السياسية والإعلامية التى تصدرت الثورة، قيادات بعضها ورثته الثورة من عهد الظلام وبعضها ركب موجاتها وبعض آخر يستعد لمرحلة متقدمة فى مفهوم الثورة وممارستها..
لا أتردد فى القول مرة أخرى، إن معظم خطابات الشهور الخمسة عشر الماضية كانت من وحى رد فعل لعهد سابق. أكاد أبالغ فأقول، إننى لم أسمع من السياسيين الكبار وبعضهم رشح نفسه لمنصب الرئاسة خطابا واحدا يوحى مضمونه بأن صاحبه مدرك فعلا أن مصر فى حالة ثورية، وأن مطالب شعب فى ثورة تختلف عن مطالب شعب فى فوضى أو تمرد.
●●●
أعتقد وبثقة كبيرة أننا وصلنا إلى نهاية مرحلة مهمة كانت الثورة تتحسس فيها الطريق، وأننا نبدأ اليوم مرحلة أخرى لا تقل أهمية وقد تكون أشد مشقة وأعظم تكلفة ولن تكون حصيلة إنجازاتها أقل عددا أو شأنا من إنجازات المرحلة الأولى.