فى قلب الكثير من مشاكل الأمة العربية موضوع ثقافى يتعلق بمدى تواجد العقلانية ومقدار ممارستها فى الحياة العربية.
نحن هنا لا نتكلم عن العقل، فهو متواجد فى الإنسان العربى بنفس القدر ونفس الإمكانيات المتواجدين فى البشر الآخرين. وكل حديث عن نواقص تركيبية ذاتية فى العقل العربى هو تمييز عرقى منحاز وحقير.
أما العقلانية فانها معنية بمرجعيات العقل الفكرية والثقافية، وبمدى تواجد حرية استعماله دون قيود عقيدية وسلوكية وتشريعات قانونية وعادات خاطئة.
وليس أفضل، لفهم تلك الظاهرة فى الحياة العربية، من تتبّع مسيرتها فى التاريخ العربى، خصوصا وأن مناهج التاريخ والدراسات الإنسانية فى مدارسنا وجامعاتنا لا تعطى المقدار الكافى من الأهمية لهذا الجانب من تكوين ثقافة وسلوكيات ونمط حياة هذه الأمة، وذلك لسبب حساسيّة الموضوع عند البعض، واختلاط مفاهيمه، وارتباطه بمحاولات استعمارية وصهيونية لتحقير هذه الأمة.
هذا موضوع يجب أن يناقش على نطاق واسع، مرّات ومرّات، إلى أن يستقر على أسس موضوعية رزينة وصادقة مع النفس، إلى أن تصبح العقلانية منهجية حياة وميزان قياس لكل نشاط.
من الضرورى أن يدرك الشباب أن غياب العقلانية هو انطفاء مؤقّت لنور أضاء جزءا من تاريخ أمتهم، ثمّ انطفئ لأسباب مجتمعية لا دخل لها بالإمكانيات الذاتية لعقل الإنسان العربى.
***
بداية مجّد القرآن الكريم استعمال العقل وممارسة التفكير الحر المستقل غير الخاضع للعادات والأعراف القديمة. لكن الخلافات والصراعات السياسية، بعد موت النبى محمد (صلى الله عليه وسلم)، أضعفت الوهج القرآنى، بما فيه عقلانيته، لحساب أقوال وحكايات نسبت للرسول ولآل بيته وأصحابه، من أجل ترجيح كفة هذه الجماعة أو تلك.
وشيئا فشيئا ألبست الأقوال والسّير والتفسيرات والاجتهادات ثياب القدسّية حتى تبّرر وتتعايش مع كل أخطاء وخطايا الملك العضوض. وهكذا ران خمول فكرى، وصعدت الممارسة السّلفيّة الخاضعة لتقاليد وأفهام وأقوال الماضى.
لم يدم ذلك طويلا، إذ بعد عقود قليلة ظهرت أولا مدرسة القدرية (من قدرة الإنسان) التى تعلى من شأن إرادة الإنسان الحرّة التى يتطلب وجودها استعمال العقل. وكامتداد لها وتعميق جوانبها الفكرية ظهرت حركة المعتزلة.
هنا منح استعمال وتحكيم العقل أولوية على النقل السّلفى الأعمى من أجل التأكيد على أن الإنسان لابد أن يكون مخيّرا ومسئولا عن نتائج أعماله، إذا كان سيحاسب على تلك الأعمال من قبل القدرة الإلهية.
لقد وصلت حركة المعتزلة، الرافعة لشعار أن تكون العقلانية هى مرجعية فهم النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وصلت إلى ذروة انتشارها وهيمنتها فى عصر المأمون العباسى. ولو لم تقحم حركة المعتزلة نفسها فى إشكالية محنة «خلق القرآن» أو «وجوده منذ الأزل»، مع كل ما صاحبها من تخمينات وممارسات عبثية، ثم دخولها فى ممارسة الاستبداد ضدّ المخالفين لما ترفع من شعارات، ثم التصاقها بصراعات سياسية لا دخل لها بالفكر والفهم الدينى.. لو لم تقحم نفسها فى كل ذلك، لاستمرّت المدرسة العقلانية فى فهم الدّين، ومن ثمّ فهم السياسة والاجتماع والسّلوك الإنسانى، ولما دخلت الحضارة العربية ــ الإسلامية فى خريفها العقلى.
كرد فعل للمبالغات والتعصّبات المعتزليّة ظهرت مدرسة الإمام أحمد بن حنبل الفقهية السلفية المتشدّدة، مدرسة المحدّثين، أى الآخذين بالأحاديث والفقه المتزمّت العنفى. ثم ظهرت المدرسة الفقهية الأشعرية التى بالرغم من ادعائها بالوسطية بين المدرسة الحنبيلة المتشدّدة والمدرسة المعتزلية، فإنها كانت معادية بعنف واجتثاث للمدرسة المعتزلية، أى لشعار استعمال العقلانية فى فهم الدين والحياة.
وبعدها توالت الإحن والمحن على المدرسة المعتزلية العقلانية. فالإمام الغزالى بهجومه العنيف على الفلسفة هاجم العقلانية بصورة مباشرة، واعتبر العقل العدو الأول للإسلام. وابن تيمية رفع شعار الابتعاد عن ممارسة المنطق بقوله الشهير «من تمنطق فقد تزندق».
ومن أجل إيقاف تلك الصراعات صدر قرار غلق باب الاجتهاد، أى استعمال العقل والمنطق فى تجديد فهم الدين.
وبالرغم من محاولة ابن رشد لرد الاعتبار لمكانة العقل، فإن محاولته فشلت وأحرقت غالبية كتبه. ومع الأسف فإن الغرب هو الذى استفاد من عقلانية ابن رشد وأخذ بها، كجزء من نهضته وأنواره، بينما دخلت المجتمعات العربية فى ممارسة فقهية لاعقلانية عنفية وصلت الآن إلى ذروتها فى مسميات «القاعدة» و«داعشّ» وأخواتهما.
كانت نهاية مأساوية، بدأت برفض قدرة العقل على فهم الدين، وانتهت شيئا فشيئا إلى عدم استعمال قدرة العقل فى فهم الواقع وتغييره وتجديده.
***
ما يهمنا بالدرجة الأولى هو تنبيه شبابنا إلى عدم الاستماع للأصوات الاستخباراتية الاستعمارية والصهيونية التى تصدر عنها أو بوحيها، بين الحين والآخر كتب وأحاديث وأفلام وحملات على شبكة التواصل الاجتماعى، لإقناع شبابنا بأن العقل العربى فيه خلل تركيبى ذاتى يمنع استعماله فى بناء نهضة عربية عقلانية.
فمثلما استطاع الغرب أن يخرج من فترة تاريخه اللا عقلانية فى العصور الوسطى إلى رحاب نهضته الحديثة، فإن العرب يستطيعون ممارسة ذلك الانتقال والتحّول.
ذلك أن وهج العقلانية فى تاريخ هذه الأمة يؤكد قدرة عقل إنسانها على ممارسة كل متطلبات العقلانية فى كل مناحى الحياة العربية.